كتابة التاريخ بحيادية وتوثيق موضوعي مسألة مهمة، ولكن هذا لا يكفي خاصة عند قراءة الأجيال القادمة لهذا التوثيق المحايد، لأنّه في الغالب يقوم بعض القراء والباحثين بخلط بعض التطورات المعاصرة وربطها بنفس الحدث التاريخي السابق الموثق، لتعطي انطباعا سلبيا أو ايجابيا حسب الرغبة الشخصية. من هنا تختلف القراءات المعاصرة لنفس الحدث القديم مخرّجة ذلك عن سياقه التاريخي الذي عند حدوثه لاقى قبولا أو رفضا جماهيريا. وهذه المقدمة يمكن تجريب تطبيقاتها آنذاك وقراءاتها حاليا على موضوع قديم لكنه مطروح للنقاش حاليا وهو:
ضمّ الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية الهاشمية
انتهت الحرب العربية الإسرائيلية عام 1948 بإعلان قيام دولة إسرائيل على غالبية الوطن القومي التاريخي الفلسطيني، ما عدا قطاع غزة الذي بقيّ تحت إدارة الحاكم العسكري المصري بعد انسحاب الجيش المصري الذي شارك في حرب عام 1948، أمّا الضفة الغربية فبقيت تحت إدارة وسيطرة حكومة (المملكة الأردنية الهاشمية) التي شارك جيشها في زمن الملك عبد الله بن الحسين في الحرب أيضا، وظلّ محتفظا أو مسيطرا على كامل الضفة الغربية والقدس الشرقية. وظلّ هذا الوضع قائما حتى انعقاد مؤتمر عمان الفلسطيني برئاسة سليمان التاجي الفاروقي في أكتوبر عام 1948 الذي كان تمهيدا لمؤتمر أريحا الذي قرّر فيه أعيان فلسطين ووجهائها ضم الضفة الغربية إلى المملكة الأردنية الهاشمية تحت قيادة الملك عبد الله بن الحسين ومن بعده الملك الحسين بن طلال حتى العام 1967، الذي شهد احتلال دولة الاحتلال الإسرائيلي لكامل قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية وسيناء المصرية وهضبة الجولان السورية، مما مثّل أكبر توسع غير متوقع لدولة الاحتلال التي ما زالت حتى اليوم الدولة الوحيدة في العالم بدون حدود معروفة محددة، ومن المفارقات المضحكة المبكية أنّه عند قيام هذه الدولة المصطنعة في مايو من عام 1948، كانت من أوائل الدول التي سارعت إلى الاعتراف بها هو (الاتحاد السوفييتي) آنذاك،وهو القائم على نظرية الماركسية اللينينية التي تدّعي أنّها تمثل روح وطموحات الشعوب المناضلة المضطهدة في مواجهة الرأسمالية العالمية.
هل كان خطأ ضمّ الضفة للمملكة الأردنية؟
كان في ذلك الوقت عام 1950 لا تلوح في الأفق أو المستقبل المنظور أية حلول للمشكلة الفلسطينية، خاصة بعد رفض الفلسطينيين والعرب لقرار الأمم المتحدة رقم 181 الصادر في نوفمبر 1947 القاضي بتقسيم فلسطين إلى دولتين فلسطينية وإسرائيلية، وكانت المساحة المعروضة للدولة الفلسطينية تساوي حوالي 45 في المائة من مجموع مساحة فلسطين، في حين أنّ دولة الاحتلال اليوم ترفض الانسحاب لحدود عام 1967 التي تراها السلطة الفلسطينية وغالبية المنظمات الفلسطينية هي الحدود المقبولة للدولة الفلسطينية المنشودة وهي لا تشكّل أكثر من نسبة 22 في المائة من مجموع مساحة فلسطين التاريخية، في حين أنّ المستوطنات الإسرائيلية تسيطر على نسبة كبيرة من الضفة وهي في توسع مسستمر متصاعد مما يقلص هذه النسبة بشكل كبير، وبالتالي مالفرق بين:
ضمّ الضفة للمملكة وبقاء القطاع تحت الإدارة المصرية؟
في ظلّ عدم وجود أي أمل أو احتمال لقيام دولة فلسطينية أيا كانت حدودها آنذاك واليوم، كان الفرق هو انساني بشكل واضح عاشه الفلسطينيون سكان الضفة الغربية الذين أصبحوا يحملون الجنسية الأردنية، وفتحت الحدود كاملة بدون أية قيود بين الضفة وشرق الأردن، وشكّل الأردنيون من أصول فلسطينية العديد من الوزرارات وتقلدوا نفس المناصب بما فيها رئاسة دائرة المخابرات الأردنية، ورئاسة أهم الجامعات والمواقع الأردنية الحسّاسة المهمة في تركيبة المجتمع الأردني، وأصبحوا يتنقلون بالجواز الأردني في غالبية الدول العربية والأجنبية بسهولة وحرية وكرامة، بينما نحن الفلسطينيون سكان قطاع غزة في نفس الوقت، أصدرت لنا إدارة الحاكم العسكري المصري ما عرف ب (وثيقة سفر مصرية للاجئين الفلسطينيين)، وكان وما يزال مكتوبا على صفحتها الثانية ( لا يسمح لحامل هذه الوثيقة بدخول جمهورية مصر العربية بدون الحصول علىى تأشيرة دخول مسبقة). وكان ذلك ساريا في زمن بطل العروبة والتحرير والوحدة العربية جمال عبد الناصر. وكنّا وما زلنا حملة هذه الوثيقة اللعنة نعاني الأمرين، ونبقى منتظرين في المطارات خاصة مطار القاهرة ساعات طويلة قبل أن يسمح لنا بالدخول و غالبا الطرد والعودة إلى المكان الذي قدمنا منه.
هل كان ضمّ الضفة أطماعا ملكية هاشمية؟
يوجد في الغالب حول جواب هذا السؤال وجهتا نظر متباينتان أو نقيضتان:
الأولى:ترى وتقول نعم إنها أطماع ملكية هاشمية لتوسيع مملكتهم ليس بضمّ الضفة العربية فقط، بل سبقها وتبعها محاولات ضم سوريا والعراق. والسؤال في هذا السياق: جيد فلنفترض الموافقة على هذه الرؤية، ولكن هل هذه الرؤية تتناقض مع رؤية وأمنية الوحدة العربية بين أية أقطار عربية؟ وإلا لماذا هللنا وصفقنا لمحاولة الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958 وانتهت بالانفصال عام 1961 الذي هللت له أيضا غالبية الشعب السوري؟. وأيضا لماذا رقصنا طربا لوحدة شمال اليمن وجنوبه عام 1990،واليوم تطالب غالبية شعب الجنوب بالانفصال مهدّدة بعض قياداتهم باللجوء للسلاح لتحقيق هذا الانفصال؟. وكذلك لماذا وافقنا وقبلنا سكوتا صامتين تصويت شعب جنوب السودان للانفصال عن شماله الذي حدث فعلا في فبرايرعام 2011 وسط اعتراف عالمي شبه جماعي؟. واليوم إذا صوّت العرب كلهم للوحدة تحت قيادة أو حكم أي ملك أو أمير أو رئيس عربي هل نرفض ذلك؟. وضمن نفس السياق هناك بعض العرب الإقليميين الكارهين لبعض شعوبهم، يقولون ويكرّرون لدرجة الملل أنّ (إمارة شرق الأردن) التي ظلت تسميتها قائمة حتى العام 1946،هي كيان مصطنع أقامه الانتداب البريطاني. والحقيقة التاريخية التي لا يمكن لأي محب أو حاقد أن ينكرها، هي أنّ العديد من الدول العربية القائمة اليوم هي صناعة ما بعد عام 1917، أي بعد سقوط ما كان يعرف ب (الخلافة العثمانية) ثم اتفاقية سايكس بيكو. فقبل سقوط الخلافة العثمانية كانت كل منطقة ما يعرف بالهلال الخصيب أو بلاد الشام تقسّمّ إلى أقاليم تابعة لبعضها، وإلا هل كان قبل عام 1917 توجد دولة مستقلة ذات سيادة اسمها سوريا ومعترف بها دوليا؟. وأيضا هل كانت آنذاك دولة مستقلة ذات سيادة معترف بها دوليا اسمها لبنان؟. إذا لماذا القفز على هذه الحقيقة التاريخية والتركيز على اصطناع الأردن سابقا المملكة الأردنية الهاشمية حاليا؟. أنا شخصيا أتمنى لو تمكن الملوك الهاشميون من ضم سوريا والعراق وإقامة دولة عربية موحدة بهذه الامكانات البشرية والطبيعية الضخمة، فعلا لغيّرت هذه الدولة موازين القوى في المنطقة. أمّا البديل الذي تمكن الانفصاليون الانقلابيون البعثيون من اقامته في سوريا والعراق فهو دولتان ظلتا الحدود مقفلة بينهما طوال ما يزيد على ثلاثين عاما زمن حكم (البطلين الوحدويين) حافظ الأسد وصدام حسين، وليس هذا فقط بل استعملا ضد بعض السيارات المفخخة والاغتيالات، ثم قام البطل الوحدوي محرّر فلسطين صدام حسين عام 1990 باحتلال دولة عربية هي الكويت،والحقيقة أنّه اخطأ الطريق فقط، فهو كان ينوي تحرير فلسطين، وظنّ قائد جيشه أنّ ساحة الصفا الكويتية هي ساحة المسجد الأقصى!!!. وساهم جيش البطل البعثي حافظ الأسد عام 1991 بضراوة وشجاعة في قتال جيش صدام ودحره من الكويت. فمسيرة من الأفضل والأنقى الملوك الهاشميون أم الأبطال البعثيون الانفصاليون القتلة خاصة عند تذكر المسيرة الإجرامية لصدام ومسيرة عائلة وحشي سوريا من عام 1970 وحتى اليوم؟
الثانية: التي تنفي أنّها كانت مجرد أطماع ملكية هاشمية بحته، أنّه في عام 1974 عندما قرّر مؤتمر القمة العربية المنعقد في العالصمة المغربية (الرباط) الاعتراف بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا وحيدا للشعب الفلسطيني، بادر الملك حسين لتطبيق هذا الاعتراف ميدانيا بإصداره ما عرف ب (قرار فكّ الارتباط بين المملكة الأردنية الهاشمية والضفة الغربية) عام 1988 مما يعني أنّ الضفة الغربية لم تعد جزءا من المملكة الأردنية بل هي جزء من الدولة الفلسطينية المنشودة، وأيضا مساهمة ميدانية ملموسة في انشاء الكيانية الفلسطينية. وفور اعطاء الجمعية العمومية للأمم المتحدة دولة فلسطين (غير الموجودة على الخارطة) عضوية (دولة مراقب) في نهاية نوفمبر 2012 ، بادر الملك عبد الله الثاني بزيارة الضفة الغربية ولقاء رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس مما يعني اعترافا أردنيا بهذه الدولة. هذا مع العلم بالحقيقة التاريخية التي تقول أنّ الأردن بقيادة الملك المؤسس عبد الله بن الحسين كان واحدة من الدول العربية السبعة التي وقعت عام 1944 بروتوكول الإسكندرية لقيام جامعة الدول العربية التي ظلت منذ ذلك العام مقرها الرئيسي والدائم في القاهرة، وأمينها العام منذ عام 1944 مصري الجنسية دون معارضة الهاشميين أو أية دولة عربية، وهذا ينفي الادعاء بانّ الهاشميين كانوا يرفضون أية وحدة عربية بدون رئاستهم وقيادتهم لها.
هذه هي حقائق التاريخ التي عشناها وموثقة تاريخيا، لذلك آمل ممن يريد مناقشتها أن يردّ عليها بحقائق إما لنقضها أو لتأييدها، فنحن بحاجة لتفعيل العقل وصولا لقناعات مشتركة مهما كانت نسبتها، بدلا من الشتائم والاتهامات التي لا تنسجم مع قول الرسول صلى الله عليه وسلم (وادفع بالتي هي أحسن فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم). ونحن والقراء هنا لسنا في موقع العداوة بل موقع مناقشة الحقائق التاريخية التي ينظر إليها كل شخص من زاوية ونظرة مختلفة.
[email protected]
ملاحظتان ضمن السياق
1 . جمعتني جلسة شخصية عام 2010 مع صديق كاتب أردني معروف من أصول فلسطينية في القاهرة، وعندما تحدثت له عن معاناتي بوثيقة سفر اللاجئين الفلسطينيين المصرية وطردي من أكثر من دولة، وتوقيفي في أي مطار عربي لساعات طويلة. أدمعت عيناه وقال: الآن أعرف كم كنّا محظوظين سكان الضفة الغربية بضم الضفة للملكة الأردنية الهاشمية، حيث تمتعنا بحرية التنقل والتملك بفضل الجواز والجنسية الأردنية.
2 . نسبة من سكان الضفة الآن لا أريد القول (كبيرة) أو (صغيرة) لعدم وجود هذه النسبة لديّ، تتمنى لو لم يصدر قرار القمة العربية عام 1974 وقرار فكّ الارتباط عام 1988، لكانوا ظلّوا يتمتعون بما يضمنه لهم الجواز والجنسية الأردنية. ولكن لنا أن نتخيل حجم الاتهامات الني كانت ستصدر لو لم يتخذ الملك حسين قرار فك الارتباط بين الضفة والمملكة الأردنية واعترافه بمنظمة التحرير الفلسطينية ممثلا شرعيا للشعب الفلسطيني واستضافته للمجلس الوطني الفلسطيني في العاصمة الأردنية في سبتمبرعام 1984 .
التعليقات