في ذكري ميلاد العملاق نجيب محفوظ ( 102 ) تحضرني روايته quot;ثرثرة فوق النيلquot; التي صدرت العام 1965، واقتطعت لحظة مسروقة من تاريخ مصر علي ضفاف النهر الذي يصعب النزول فيه مرتين كما قال عمنا هيراقليطس.
صور أديب نوبل بقلمه الرائع مناخ الأنس والفرفشة والفضائح والمؤامرات والدسائس التي كانت تحاك داخل العوامات والذهبيات الراسية على نيل القاهرة.
فقد حدث تطور اساسي منذ الثلاثينات، اذ اصبحت العوامات بيوتاً يملكها افراد من الطبقة الراقية في المجتمع المصري كالباشوات والاعيان والوجهاء والمسؤولين والفنانين. ولم تكن البيوت العائمة للسكنى اساساً وانما للترفيه والتسلية بعيداً عن العيون.
والعوامة غير الذهبية .. تجمع بين كونها بيتاً عائماً وسفينة في الوقت نفسه، وبالتالي فهي تمتاز بأنها quot;عوامةquot; وقت اللزوم وباخرة تمخر في النيل عندما يشاء صاحبها. اما العوامة الذهبية فساكنة فوق صفحة الماء ولا تنتقل من مكان الى آخر وهي مركزة على صهاريج حديد، نصفها يغوص في الماء ونصفها الآخر يطفو. وتشبه العوامة بيتاً له باب رئيسي ونوافذ تطل على النيل، وهي مسقوفة بالصاج المطلي لاتقاء المطر، وتضم مجموعة غرف تتوسطها قاعة كبيرة للاستقبال.
وتربط العوامة بأسلاك وسلاسل حديد وعروق خشب في الشاطئ ويتم الدخول اليها والخروج منها عبر ممشى مبلط في نهايته سلم يقود الى الشارع. وللعوامة غالباً حارس أو خفير سماه نجيب محفوظ بـ quot;خفير اللذاتquot;. وكان محفوظ زبوناً دائماً على احدى هذه العوامات واستأجر في فترة من الفترات الطابق الثاني من عوامة حسن دياب باشا اكبر تاجر اقمشة ونسيج في الغورية. ورست هذه في العجوزة، اما العوامة التي صور فيها فيلم quot;ثرثرة فوق النيلquot; فكانت ترسو تحت جسر الزمالك. ولخص محفوظ في كلمات مكثفة طبيعة هذه المرحلة في مصر اذ قال على لسان بطله خالد عزوز: quot;يا أي شيء، أفعل شيئاً، فقد طحننا اللاشيءquot;.
عدد العوامات والذهبيات بين كوبري جسر امبابة وكوبري الجامعة في الجيزة، مروراً بالزمالك والجبلاية والعجوزة على شاطئ النيل، بلغ 260 في الاربعينات، وانخفض اليوم الى الربع. ومعظم هذه العوامات نقل الى حي الكيت كات بأمر من زكريا محيي الدين وزير الداخلية في عهد الثورة. وقصة هذا الامر كما يرويها الريس زكي يوسف المسؤول عن صيانة العوامات وتجديدها منذ نصف القرن، ان حكمت فهمي كانت احدى محظيات السراي قبل الثورة، وكان انور السادات ينقل عنها اخبار السراي للضباط الاحرار. استيقظت ذات يوم مذعورة على صوت صفارة الشرطة. فأطلت من نافذة عوامتها وهي تصرخ في وجه ضباط الشرطة الذين كان على رأسهم وزير الداخلية. فأقسم على نقل عوامتها من الجبلاية الى quot;المنفىquot; وكان هذا المنفى هو الكيت كات حيث رست العوامات كلها بعد ذلك.
ومن أشهر عوامات الجبلاية عوامة البدراوي عاشور باشا، وعوامة الفنان محمد الكحلاوي صاحب المدائح النبوية الذي لقب بـ quot;مداح الرسولquot; واشتراها منه الصاغ انور السادات العام 1951، وعوامة جميل ايزيبير باشا وهو سوداني الجنسية، وكان من أثرى اثرياء البورصة وكانت له عوامتان احداها في الجبلاية والثانية في العجوزة، وعوامة زهرة هانم رجب، وعوامة الزوجة الاولى لمطرب الاجيال محمد عبدالوهاب وذهبية الملك فاروق وذهبية الفنان فريد الاطرش.
حفل شاطئ الجبلاية بنصيب الاسد من قصص الغرام والهيام والغدر والخيانة وأشياء اخرى، وصفه مصطفى امين في كتابه quot;عمالقة واقزامquot; بـ quot;الخطافquot;: quot;يخطف كل شيء.. يخطف زوجة الرجل، وبيت الرجل، كان يفضل خروفاً لا حق له فيه على رولز رويس يملكها، يعشق ما لا يمتلكه ويزهد في ما يمتلك، يسطو على الحي والميت، ويسرق الغريب والبعيد، وينهب العدو والصديقquot;. وهكذا خطف الفنانة كاميليا من صديقها المخرج احمد سالم العام 1946، والراقصة سامية جمال من المطرب فريد الاطرش عام 1950.
وشهدت ذهبية فاروق وذهبية فريد الاطرش هذا المد والجذر بين الملك الذي يجلس على عرش البلاد، والرجل الذي يتربع على عرش قلب امرأة. ففي احدى ليالي صيف 1949 اراد بوللي، مدير الشؤون الخصوصية للملك، ان يسري عن الملك فاروق فأخذه الى احد الكباريهات ليرى الراقصة الجديدة سامية جمال. وبدأت سامية ترقص وكانت ترتدي ثوباً يكشف عن كل ما امر بستره قانون العقوبات واخذت ترقص امام الملك الذي ترك قبل انتهاء الرقصة، على غير عادته، وهو غاضب يسب بوللي والراقصة والليلة والكباريه.
كان معروفاً وقتئذ ان سامية تحب فريد وانهما على وشك الزواج، وانها تعيش معه في ذهبيته توطئة للزواج. أراد بوللي ان يغطي سوء اختياره فرتب لقاء في مكان عام جلس فيه فريد بجوار سامية كعاشق ولهان. وما ان رآها الملك فاروق حتى شعر بأنه يجب انتزاعها من حبيبها.
وللقصة بقية