لطالما قيل الكثير عن وظيفة الشعر ودوره في تحقيق المتعة والفائدة في النفس الانسانية التوّاقة الى الجمال وإحداث البهجة في دواخل النفس البشرية وخلق حالة من السعادة والنشوة حينما نصغي الى قصيدة مؤثرة او نقرأ نصّا شعريا ننتقيه بعناية وقد يتوافق مع اذواقنا فتتضاعف تلك المتعة وتصل الى مديات ومدارج أعلى فاعلى وفقا لمزاج المتلقي وحالته ان كان في وضع يؤهله لتلقي الشعر ويتلهّف للإنصات اليه او قراءته وقد تمتدّ تلك النشوة والمتعة كلما تذكّرنا نصوص قصيدة احببناها وتبقى في خزين ذاكرتنا وقد لاتبرح مكانها في اعماقنا سنوات طوال
وغالبا ما تتسع وظيفة الشعر لتصل الى حالة التطهير من الشوائب العالقة في النفس الانسانية خاصة اذا كان تمرّ في حالة ضجر او ملل او حزن او حتى قلق فيعود المتلقي بعد ان ينتشي بالشعر صافي السريرة ، هادئ البال وكأنه اطعم بوجبة لذيذة شهية اشبعت روحه وغذّت كيانه مثلما يشبع الطعام اللذيذ شهوة البطن فتسترخي حواسه وتطيب نفسه وتملأه الطمأنينة والراحة
ولكن هل يشفي الشعر بعض العاهات التي تصيب الذاكرة عندما يكبر الانسان فيفقد الكثير مما علق بذهنه بدءاً من ملاعب الصبا وصبوة الشباب ومغامراته والأحداث البارزة في حياته ؛ مثل حبّه الاول واقترانه برفيقة عمره والحنين الى ذريّته واصدقائه والمحطات الهامة والرئيسية في حياته والتي يصعب نسيانها عند الانسان الطبيعي السليم ؟؟
أيمكن ان تكون كلماتُ الشعر وايقاعُه في النفس وصورُه وخيالاته واستعاراتُه عقارا شافيا لذاكرة فقدت مرآتها وتاهت في دروب ومضائق النسيان بسبب الشيخوخة والهرم أو صدمة ما عصفت بها ؟!
وكيف يمكن الاستشفاء بالشعر وجعله بلسما شافيا ومرهما يقوم بترطيب الذاكرة وإنعاش الذهن خاصة لاؤلئك الذين بلغوا من العمر عتيّا وتجاوزوا العقد الثامن من عمرهم ووصلوا الى حالة الاجهاد والضعف مع تقادم العمر وخفوت لمعان الذكرى الى حدها الادنى مما نسميه حالة الخرَف وفي مراحل أرذل العمر كما يقال عنها
اذكر حالة استرعت انتباهي قبل ايام قليلة في بريطانيا وفي احد مراكز ايواء المسنّين المصابين بحالات متقدمة من الزهايمر الذي يصل الى حدّ الخرف ومدى قوّة المفردات الشعرية والخيال في القصيدة في تحقيق المتعة ولو في حدّها الادنى لدى اذهان متلقّي الشعر ، مرضى فقدان الذاكرة
ففي تجربةٍ فريدة قامت بها السيدة quot; جيل فريزر quot; رئيسة جمعية quot; كيسنغ آيت بيتر quot; في بريطانيا ؛ دُعِي الشعر الى مأوىً للعجزة وفاقدي الذاكرة من المسنّين ليكون حاضرا في وسطهم عسى ان يُعيد شيئا من وهج الذاكرة الضائعة لهؤلاء المتقاعدين التسعة عشر المقيمين في مأوى/ هايلاندز في سترادفورد ابون ايفون وسط انجلترا
تقول السيدة quot; ايلين غيبز quot; المسؤولة عن المأوى انها احسّت بان هؤلاء المتقاعدين المصابين بالزهايمر شعروا بسعادة غامرة وهم يتذكرون قصيدة ألقيت على مسامعهم من لسان احدى المتطوعات العارفات بالشعر وكم كان نهارهم مشرقا بهيجا وهم يتعلقون بأول خيط يربطهم بطفولتهم يوم كانوا صغارا في المرحلة الابتدائية يقفون في طابور المدرسة ويصغون الى شعر العصر الرومانسي وبالذات قصيدة quot; النرجس البري quot; للشاعر الانجليزيquot; وليم ووردزورث quot; الموضوعة في المنهج الدراسي للادب الإنجليزي في مدارسهم وقتذك
وقالت احدى المقيمات في دار المسنّين وهي المدرّسة السابقة في احدى مدارس بريطانيا والتي تقاعدت بسبب الشيخوخة وهي السيدة quot; ميريم كولي quot; ذات الشَعر الاشيب المصابة بالزهايمر : مع اني لااتذكر كلمات القصيدة لكنها حملتني الى ذكريات طفولتي الجميلة فقد تم تلقيني اياها في المدرسة ، حقا سأحلم بها هذه الليلة في رحلة ممتعة بخيالي واتسلق الاشجار كما كنت في ريعان شبابي وافترش نرجس quot; ووردزورث البريّ quot; وانا في غاية السعادة
اما الصبايا المتطوعات اللائي يلازمن هؤلاء المسنين فقد استُطلعتْ آراؤهنّ بشأن ردود الفعل التي تصدر من مرضانا السامعين اذ تقول الشابة هانا : حينما نصل الى المأوى نرى كل واحد جالسا في مكانه المعتاد وعندما نبدأ بقراءة القصيدة بصوت عالٍ نلحظ لمعان اعينهم وانبهارهم حيث تمتدّ الرقاب الينا صاغرة مصغية لما نقول وهذا امر حسن ، اما زميلتها quot;انيتا quot; التي تعمل ممثلة في فرقة رويال شكسبير كومباني العريقة فقد اضافت : انه لأمرٌ رائع عندما ينضم اليك سامعوك ليصغوا الى شعر quot; جون ميلتون quot; أوquot; جورج بايرون quot; وهم في اسعد حال
ويجدر ان نذكر بان الفرقة المذكورة ومقرها ستراتفورد ابون ايفون (مسقط رأس وليم شكسبير) تشارك مسؤولي المأوى في مساعيهم للعناية بكبار السن المبتلين بالزهايمر وكثيرا ماتبعث منتسبيها المتطوعين لقراءات شعرية منتقاة لأولئك الكبار التي تتراوح اعمارهم بين الحادية والثمانين الى السادسة والثمانين من العمر
اما السيدة quot; لين دارنلي quot; رئيسة دائرة الصوت والنصّ في الفرقة فقالت ان وتيرة القصيدة تسري في اعماقنا فالشعر المقروء لهؤلاء المصابين ينعش ذاكرتهم برذاذ من مطر الذكريات وليس فقط التذكير بعواطف وأحاسيس مضت فالتجربة المثيرة التي حدثت للمستمعة المتقاعدة المصابة بالزهايمر quot; ميريم كولي quot; ذات الواحد والثمانين عاما جعلها تفيض حماسا فقد كانت احدى القصائد تتحدث عن رجل يودّع حبيبته فأجهشت بالبكاء قبل ان تتحدث بكلامها الخاص عن خطيبها الذي قتلوه امام انظارها ، فتقول بتأثرٍ واضح :
لم اكن قد نبست ببنت شفة منذ دخولي هذا المأوى وكان الصمت يلازمني لكن هذه القصيدة أنطقتني وتفاعلتُ معها وكانت صدى لمرحلة مهمة من حياتي حين كنت في ميعة الصبا
وحين سؤل الممرضquot; ديف بيل quot; المسؤول عن هؤلاء المرضى والعناية بهم والذي يلازم المسنين ولايكاد يفترق عنهم الاّ لماماً عن مدى تأثر البقية الباقية حينما يستمعون الى الشعر فقال :
الشعر لايشفي من الخرف تماماً الاّ انه قادر كما الاغنية على تسليح المرضى بالثقة من جديد وبعدها يكتشفون انهم يتذكرون شيئا ما رغم انهم يفشلون في تذكر اسمهم الاول وأكاد اجزم بان الشعر يسمح ايضا بتجديد الروابط بين هؤلاء المرضى مع الناس العاملين بخدمتهم وبين انفسهم ايضا وبين الاجيال الجديدة مثلما حصل بين هؤلاء والمتطوعات قارئات الشعر
ماهذا السحر الكامن في الأدب والفنّ ؟؟ وخصوصا جاذبية الشعر الموغل في اعماقنا ، وما السرّ الذي يجعله ينفث من لسانه ذلك الطيب العبق الرائحة وينشر هواءً معطّرا من روائح الكلمات ويجنح بنا الى مصحّات العافية ويُدخل السرور والبهجة والمؤانسة في محيط الجسد والروح ويبعث الدهشة التي تأخذنا بعيدا على بساط طائر في سماء الخيال القويّ الجناح فيخفق ويبسط ذلك الجناح في دواخلنا وتصحو له الذاكرة النائمة بعد ان كانت غارقة في سبات طويل
وقديما قيل في تراثنا العربيّ : quot; ان من الشعر لحكمةً وان من البيان لسحْرا quot; والحكمة من معانيها المعروفة تطبيب النفس وتطهيرها وإزالة ماعتم منها من الظلمة وإنارة طريق الصواب وإيقاد العقل ، وماسحر البيان الاّ انعاش القلب وترطيب المشاعر وشحذ الذاكرة وإيقاظها وتنبيهها بجرس الشعر من خلال معانيه وتراكيبه الايقاعية وجنوحه نحو الخيال ليطير بنا حيث نريد ونحطّ في محطات كنا مررنا بها سابقا في طريق الحياة