قد يكون نبأ الاشتباكات التي استيقظت عليها جوبا عاصمة جنوب السودان وأصوات القذائف والقنابل خبراً غير مفاجئ بالنسبة لسكان القارة الإفريقية أو المتابعين للشأن الإفريقي من خارج القارة، فالاشتباكات الجارية قد لا تعدو أمراً اعتيادياً بالنسبة بقارة مشهورة بمعاركها وحروبها المتناسلة.

الأنباء الأولية الواردة من العاصمة جوبا تتحدث عن وقوع مئات القتلى والجرحى بسبب رغبة أنصار الرئيس سيلفا كير المنتمين إلى قبيلة الدينكا، إحدى كبرى القبائل في جنوب السودان، الانتقام من انصار نائب الرئيس المعزول منذ منتصف العام الجاري، رياك مشار، والمنتمي إلى قبيلة النوير التي تعد الأقل نفوذاً وعدداً من قبيلة الرئيس سيلفا كير.
اللافت في تطورات الوضع انه كان مفاجئاً لكافة أجهزة المخابرات العالمية، وخاصة الولايات المتحدة، التي رغم أنها سبق أن حذرت سيلفا كير من طموحات نائبه السياسية قبل فترة، فقام بعزله ووضعه تحت الإقامة الجبرية في منزله، إلا أنه تفاجأ بقدرة نائب الرئيس رياك مشار على شراء ذمم مجموعة مقربة من الرئيس الجنوبي، ومن ذات قبيلته، وتحالف عدة قبائل أقل نفوذاً وعدداً وثراءاً من الدينكا المهيمنة، مع مشار، لتنفيذ هجوم على القصر الرئاسي وتنفيذ انقلاب على الحكم الحالي.
بلدة بور التي تعد عاصمة لولاية جونغلي وكذلك مقراً للقبيلة الأقل نفوذاً بين قبائل الدينكا والنوير، وهي قبيلة المورلي، تؤكد ما تم تسريبه أخيرا من تصاعد النقمة على القبيلة الأكبر والحاكمة لجنوب السودان منذ استقلاله عن الأم قبل نحو عامين، واتساع رقعة المعارك ووصلوها إلى مناطق خارج العاصمة جوبا، يصب في خانة وجود مخطط كبير لم تصح أجهزة المخابرات والدولة في جوبا عليه إلا متأخراً.
الأنباء المتسارعة تشير إلى تزايد انشقاقات داخل النخبة الحاكمة وانضمامها إلى نائب الرئيس الذي اعتبر عزله من منصبه بمثابة الطعنة له ولقبيلته المؤيدة لسيلفا كير وقبيلته، فمعظم قبائل جنوب السودان ينضمون لمحاربة قبيلة الحاكم، حاكم ولاية أعالي النيل على سبيل المثال، قد انشق بالفعل وانضم إلى قوات المعارضة، وولاية جونغلي هي تحت سيطرة قوات المعارضة الآن، كما تسري شائعات عن أن ولاية الوحدة سوف تسقط قريباً وان معظم موظفي المفوضية العليا للاجئين من جونغلي وولايات أعالي النيل والوحدة تم نقلهم غلى جوبا تمهيداً لإخلائهم.
العبارة التي يتم تداولها اليوم في جنوب السودان هو تحوله إلى صومال جديد بعد أن أعلنت الولايات المتحدة وبريطانيا وبقية دول الاتحاد الأوروبي عن خطة لإخلاء رعاياهم، بعد أن وافقت حكومة جنوب السودان على الانتظار حتى يتمكن الاجانب من إخلاء البلد. والامم المتحدة قامت باستئجار طائرة للبدء بالاخلاء فوراً، ومن المرجح أن تشرع رحلات لطائرات مستأجرة لاجلاء الموظفين غير الضروريين في المفوضية العليا لشؤون اللاجئين.
ما أود تأكيده هنا، ان رياك مشار الرجل الذي تلقى وقبيلته ضربة قوية بإقصائه عن الحكم، بعد إعلانه الرغبة في الترشح لمنصب رئيس البلاد، ما كان لينجح في عمله الانقلابي لولا عدة عوامل:
الأول: حالة التأييد الشعبي التي يتمتع بها مع قبيلته النوير في مواجهة تسلط القبيلة الأكبر (الدينكا).
الثاني: حصول انشقاقات وتآمر داخلي في قبيلة الدينكا ضد سيلفا كير نفسه، بعد استبداده بمعظم السلطات في يده، وإطاحته بالعديد من ضباط الجيش والأمن قبل مدة وجيزة.
الثالث: وجود تأييد سوداني (شمالي) من حكومة الرئيس عمر البشير لمساعي مشار، حيث تؤكد مصادر سياسية واستخباراتية ان (مشار) كان على تنسيق تام مع البشير خلال الفترة السابقة، وان البشير قام بتزويد مشار بالأسلحة وتدريب قوات قبيلته خلال الفترة السابقة، وانه وعد البشير بإعادة توحيد السودان في حال نجاحه في انقلابه، مقابل تعيينه حاكماً عاماً على جنوب السودان وتقاسم السلطة معه بدلاً من سيلفا كير، وإعادة توحيد السودان كما كان.
وفيما تبدو المخابرات الغربية وفي مقدمتها الامريكية والبريطانية في حالة ذهول تام ومفاجئة كاملة حيث تمكن (مشار) من اختراق كل التدابير الأمنية التي أحاط بها كير نفسه، والوصول إلى قصره في محاولة لقتله، فضلاً عن اتساع دائرة الانشقاقات في جيش كير وانضمام المزيد من الأنصار إلى مشار، ما يهدد جنوب السودان باندلاع حرب انتقامية قبلية واسعة، تروج انباء شبه مؤكدة عن محاصرة السفارة الأمريكية من قبل الانقلابيين، واحتمال تكرار سيناريو بنغازي في ليبيا، وسحل السفيرة الأمريكية في جوبا، بعد إصرار الولايات المتحدة على إبقاء الموظفين الأساسيين في البلاد، حرصاً منها على سمعتها الدولية، على حد تعبير أحد الدبلوماسيين الأمريكيين.