عالم الصحافة شاسع جدا لاحدود له ووسائل الاعلام اليوم اكثر من ان تُحصى بدءاً من الصحف الجمّة ورقيةً كانت ام الكترونية وما تقذفه المطابع كل صباح وكل مساء من جرائد ومجلات ونشرات صحفية ناهيك عن المواقع الصحفية الهائلة التي يعجّ بها الانترنيت . وبالرغم من سعتهِ الهائلة لكنه يضيق ذرعا بالطارئين والتقليديين الذين زجّوا انفسهم فيه فليس كل مثقف حتى ولو كان كاتبا او شاعرا بارعا وله باع طويل في الكتابة والنشر يمكنه ان يُرسخ قدميه في ارض هذا العالم الفسيح ، فالقليل القليل من يركز وتثبت رجلاه في مزالقه ونادرا جدا ما تلفت نظرنا تجارب بعض الصحفيين .واذكر هنا احد الصحفيين المغامرين حينما يتقمّصون شخصيات غير شخصياتهم المألوفة ويظهرون كأبطال لقصص وحوادث فيها الكثير من الغرائبية والجرأة بهدف الوصول الى الحقائق ، وغالبا ما قرأنا عن صحفيين تخفّوا وتقمّصوا شخصيات ملفتة للأنظار ومارسوا الإستجداء والأعمال المضنية كعمّال يعيشون في ظروف عمل صعبة ومتسوّلين يجوبون الشوارع ويفترشون الارصفة ؛ لكن الصحفي الالماني البارع الذائع الصيت (غونتر فالراف )كانت له مغامراته الصحفية المثيرة للإعجاب حقا ، فهو لايكلّ ولا يملّ عن التنكّر باية شخصية تثير فضوله طالما توصله الى حقائق واسرار لم يصل اليها غيره

فهذا الشيخ العجوز الذي تخطّى السبعين عاما تعرض مرارا خلال عمله في الصحافة الى ملابسات ومواقف لايحسد عليها ؛ فمرة يتنكّر بصفة عامل في مصنع ويصف اشياء لاتصدّق يتعرّض لها العمال وعن اعمال السخرة التي يعانيها العمال المهاجرون في بلدهِ الأم المانيا وغالبا ماتعرّض هذا الصحفي الى اصابات موجعة جرّاء مشاركته العمال في مواقع عملهم حتى انه احترقت يداه في احدى المرات حين تقمص شخصية عامل مخبز ليعرض المآسي والاصابات والحروق التي يعاني منها عمال المخابز في اجواء ساخنة قد لايحتملها الانسان في ظروف عمل قاسية جدا
كل ذلك من اجل ان يقدّم للقراء حقائق مايدور في الخفاء من تعسف وظلم يحيق بالشرائح الضعيفة من الناس ويُظهر معاناتهم وهمومهم والحيف الذي يلقونه من ارباب العمل الذين يستنزفون ويمتصون جهد العاملين باقصى قدَر ممكن
وفي احدى تجاربه المثيرة اشتغل عاملا لنقل الطرود البريدية الثقيلة واصيب بحالات تشنّج في عضلاته وأعصابه في منطقة الظَهر والعاتق واستدعى الامر مراجعة الاطبّاء لعلاجه مع توصية بضرورة أخذ الراحة لمدة ثلاثة شهور على الاقل لكنه سرعان مايقوم من فراش المرض قبل ان يشفى تماما حتى يخوض تجربة اخرى دون مراعاة لأوجاعه ، وفي احدى مغامراته الصحفية تنكّر بصفة عامل تركي بائس يعيش في المانيا وادّى مختلف الاعمال المضنية التي لاتطاق ومن ضمنها التحوّل الى مايشبه quot; فأراً للاختبار quot; في احد مراكز البحوث وتعرّض الى مضاعفات وتدهور ملحوظ في صحته بسبب الادوية والعقارات التي كان يأخذها فأربكت نظام المناعة في جسدهِ فترة من الزمن الى ان عاد الى وضعه الطبيعي بعد ان ارغم على الاستراحة وتعاطي الدواء اللازم
لكن الحادث الاغرب في مغامرات quot; فالراف quot; حينما تقمص شخصية رجل افريقي صومالي باحث عن عمل واضطر الى صبغ بشرته باللون الاسود بمعونة صديقة تعمل كعاملة مكياج جعلت شعره اشعث مفتولا وكيف كان الناس يخافونه عندما يجلس الى جوارهم في حافلات النقل العامة وفي المقاهي والنوادي ويتسكع مع السابلة في الشوارع والاسواق اذ صوّر لنا كيف كان الناس يتجنبون الاختلاط به في المرافق العامة
ومع ان فكرة تقمص شخصية رجل اسود ليست فكرة مبتكرة فقد سبقه بخمسين عاما رجل اميركي أبيض البشرة يدعى quot; جون هاوارد غريفين quot; حينما تنكّر كزنجي ملوّن واخذ يتجول في انحاء الولايات المتحدة ؛ في الوقت الذي كانت النظرة العنصرية في اوج اشتدادها ويقال ان quot; غريفين quot; تناول اقراصا أدت الى اسوداد بشرته لعدة اسابيع كما ذكرها في كتابه الموسوم quot; في جلد اسود quot;. لكنه لم يعش طويلا فقد تسببت الاقراص التي تناولها سرطانا بجلده ومات على اثرها
ومنذ الثمانينات من القرن الماضي لمع نجم quot; فالراف quot; حينما نشر مغامراته على الملأ في كتابه المسمّى (الحضيض) حيث كشف معاناة الجالية التركية المقيمة في المانيا والتي يربو عددها عن مليونين ونصف نسمة من خلال شخصية احد فتيانها واسمه quot; علي quot; وما لاقاه من عذابات جراء بحثه عن لقمة الخبز ونظرة الاشمئزاز التي يلقاها غالبا كونه مهاجرا دخيلا على البلاد بالرغم من انه يحمل الجنسية الالمانية مع اسرته
وهناك الكثير الكثير من مغامراته وتجاربه التي دوّنها في مؤلفاته والطريف انه كان يكتب تقاريره الصحفية خلسة خلال فترات الاستراحة اثناء عمله الميداني وهو يعيش مغامرة ما ويعدّ هذا الصحفي المثابر من اكثر زملائه الذين برعوا في تقمّص شخصيات من يكتب عنهم بحيث يصعب جدا اكتشافه ويذكر كلّ شاردة وواردة خلال كتابة تقاريره الى الصحف التي يعمل بها ولهذا نراه يتململ من الكتابة في المكاتب ولايطيق الجلوس على كرسيّه فالعمل الميداني باحته الفسيحة الواسعة وبين شخوصه
حقا لقد جعل / فالراف من التقمص والتنكّر فنّا قائما بذاته وجهدا مثيرا للإعجاب فهو لايكتب في غرف مكيّفة كبقية زملائه انما يزجّ نفسه في اتون البؤس والمعاناة ويندمج مع الناس المهمشين والشرائح المظلومة وهذا مالاحظناه في كتبه حين دوّن تجاربه ومغامراته في مؤلفاته مثل quot; كبش الفداء quot; وquot; الحضيض quot; وquot; رفقة الخاسرين quot;
لم يخطئ من سمّى الصحافة مهنة المتاعب غير انه قلّل من مخاطر من يعمل فيها ؛ فقد تجرف الصحفي الى مسالك تفوق المتاعب المتعارف عليها مثلما قاسى صاحبنا quot; فالراف quot; حين وقع به المرض وأقعده شهورا وكاد يقترب من الموت وحتى لو لم تغضب السلطة من الصحافة وتصالحت معها في شهر عسل قصير فان غضب المجتمع ومعاناة المسحوقين والمهمّشين تشكّل متاعب اخرى لاتقلّ شأنا عن هموم ومتاعب نقل الحقيقة الى الرأي العام وتبصير الناس بما يقاسيه البعض من مرارة العيش والتعامل غير الحسن لكثير من الشرائح الاجتماعية المظلومة في مجتمعاتنا المتخلفة وربما المتحضرة ايضا