قديما قيل: إذا تحدث المؤرخ فعلى الجميع أن يصيخ السمع. وفي التصنيف القديم أيضا لسلم المعرفة كان التاريخ و علومه وفيلسوفه يعتبر أبو العلوم كما الفلسفة، التي حظيت بالمكانة ذاتها في مرحلة من مراحل تطور المعرفة الإنسانية، قبل أن يسلما معا، في هذه الزمن الموصوف بالتجربة، والمشحون بالكثير من التقنية الحديثة لمناحي الحياة المعقدة، حتى غدا العلم التجريبي، بتركيباته التقنية المتشابكة مصدر إلهام واستقطاب لا يضاهيهما أي مجال آخر من مجالات المعرفة. وإن كان البعض لا يزال يتحفظ على ريادة quot;التقنوقراطيquot; لقضايا الحياة الكبرى.فهو بحسب نظره،قصير النظر، عديم المنفعة إلا في مجاله، لا يقوى على إدراك خبايا الأمور في بعدها الآخر، أي ما وراء المحسوس من الوجود.
ومن هنا تنبع أهمية إثارة مسألة ترتيب الأولويات في المعرفة الإنسانية وتصنيفها حسب النجاعة الكاملة. نجاعة معرفة قادرة على فتح آفاق واسعة أمام الإنسان ليفكر في quot;المصير الأبديquot;المنتظر، وليس في اللحظة الراهنة بما تمليها المصلحة الآنية فحسب، كإشباع حاجاته من المستهلكات والمرفهات،أو بإنتاجه ما قد يسمح له بتدمر ذاته وغيره،من دون أن يرفل له جفن أو ينتفض له ضمير (يدخل ضمن الدمار الذاتي صناعة الأسلحة الفتاكة والسعي الحميم لحيازتها بشتى الوسائل وتدمير البيئة.)
لاشك أن غياب المثاقفة في زمن انحسار quot;المعرفة الشموليةquot;البعيدة عن التخصص،بسبب تغييب مادة الثقافة العامة من مناهج تكويننا الدراسي، وابتعاد ناشئتنا في غالب الأحيان عن quot;التثقيف الذاتيquot;،بميلها الشديد إلى كل ما هو بصري في زمن اجتياح quot;المرئيquot;لquot;المكتوبquot; بقوة، هو في حقيقة الأمر اختزال وتبخيس للمعرفة.كما لا شك فيه أن انتهاج التخصص المبكر لهذه الناشئة في مسارهم الدراسي، سعيا وراء امتلاك ناصية quot;علم ماquot; في quot;حدوده الضيقةquot;، باختيار مسلك واحد موحد في مقتبل العمر،جريا وراء اقتناص فرصة عمل مناسب، يجعل ارتباطquot;المعرفةquot;بالشغل و الوظيفة أمرا مذموما وليس محمودا. في الوقت الذي يفترض فيه اقتران هذه المعرفة quot;بالعملquot; كمفهوم عام تتحقق به عمارة الأرض بما يليق بها، في أبعادها الدينية و الدنيوية، وليس كما خطط له إنسان الحداثة الغربية،لما جعل quot;الطبيعةquot;، بأدغالها الوعرة ومستنقعاتها الواسعة عدوا يقتضي تطويعه لإرادته حتى تصير خادمة لمشروعه الحداثي، بكل رموزه الدالة على القوة والسيطرة والخروج على المألوف،بما في ذلك تطويع quot;طبائعquot;الآخرين أيضا،في إطار حركة إمبريالية رأسمالية غربية.التطويع طال أيضا طبيعة quot;ذاتهquot; وذوات الآخرين في قوالب نفسية تؤمن بانتهاء عالم الغيب وتنتصر لفكرة موتquot;الإلهquot; كما بشر فاوست وليصير هو الإله. وهذا المشروع الحداثي الذي تنبأ له إنسان ما بعد عهد الكنسية والفيودال، هو ما قلص من فرصة سيادة المعرفةquot; ذات النجاعة الكاملةquot;. أي معرفة إنسانية حقيقية بأبعادها الروحية والمادية من غير اختزال أو تضييق على منحى من مناحي في فكر الإنسان وشعوره و ميولاته الدينية بالأساس.
تختلط الأمور إذن في ترتيب الأولويات حين يتم تمجيد قيمة علم على علم وجعلهquot;ديناquot; جديدا تتنادى له الأهواء والمصالح،في محاولة من الذين في قلوبهم مرض جعل هذا العلم/ الدين قادرا على القيام بدور ما ليس له به quot;علمquot;، ونعني به quot;هداية الإنسانquot; في هذا الكون. و أنّا له ذلك !.ومن جهتها عملت سرعة تدفق صور الاستهلاك المبتذلة عبر الإعلام المثير على تمثلquot;شيء ماquot;أوquot; شخص ماquot; في الأذهان كأيقونات قابلة quot;للتألهquot; بدلquot;اللهquot; المتعال، لدرجة يتجرأ الواحد ممن هم على صراط هذا quot;الدين الجديدquot;/العلم أن لا إله إلا quot;العلم التقنيquot;،والذي يبدو أنه يستطيع استمالة ضعاف البصيرة وقصار النظر بمن فيهم صناع القرار من كافة الأغيار.
وفي عالم السياسة والاقتصاد تغدو الفرصة ذهبية لمن أراد الحظوة. فأسهم quot;التقنوقراطيquot;، وفق هذا المنظور الأهوج في الأولويات في سلم المعرفة في تصاعد مستمر على حساب الفيلسوف الحكيم، والمؤرخ الموسوعي والمفكر المنظّر. وتزداد المسألة تأزما حين يستجير quot;السياسي البراغماتي quot;،في صراعه المحموم للوصول إلى دار القرار،وبلوغه إلى سدة الحكم بمنطق quot;التقنيquot;، في محاولة منه لفهم ما هو أشمل من الرقم والآلة،أي الوجود، يستجير بمنطق التقني وبقياساته الحسابية الدقيقة، توهما منه بشمولية المنهج وحصانته. وكأن هذا الوجود في نظره شكل من أشكال الهندسة الميكانيكية، أو مادة قابلة للتشييئquot; والتصنيع حسب متطلبات السوق، يتحكم فيه منطق رياضياتي، يكفي أن نضبط قياساتها، وندقق معادلاتها،لنتعرف المدخلات فنصل إلى المخرجات. بل ونضعها على سلم الإنتاج كيف نشاء لنكسب منه الأرباح التي نريد.و الحال أن الوجود كما أسلفنا أشمل من الفهم الرياضي،وأعمق من الشكل الهندسي المنمط، لايخضع لأية آليات،اللهم آلية quot;الهدايةquot; الإلهية وحسب عطاء الله سبحانه وكرمه.لذلك كان لزاما إعادة ترتيب الأولويات في سلم المعارف، في خضم ما تعيشه الإنسانية من تردّ حقيقي،كان سببه عدم الفهم من غائية الكائن/الموجود في هذا الوجود.وما ترتب عنه من غلبة فكر موصوف ببعد واحد موحد،ألا وهو فكر quot;الميكانيكية الصناعيةquot; وquot;العلمية الجامدةquot;. فكر ببعد مصلحي آني، مسيطر على مرام فعل الإنسان. فكان ذلك إيذانا بانبثاق أفعال قبيحة في فهم quot;الحياةquot;حالا ومآلا وبروز قيم بديلة تستدعي منا الحذر جميعا كي لا نفقد quot;هويتنا الإنسانية الطبيعيةquot;.
من هنا تأتي أهمية الدراسات التاريخية في هذا التوقيت بالذات، من تاريخ الأمم والشعوب لتستعيد الذاكرة الإنسانية روحها المتشظية من هول ما تراكم من أفعال قبيحة كان منبعها شيطنة quot;الإنسية الحداثيةquot; خلال القرنين الماضيين من عمر التاريخ البشري. أفعال تجاوز قبحها منتوج ما اقترفته يد الإنسان منذ الجريمة الأولى وإلى غاية بداية الإمبريالية الغربية في القرن التاسع عشر.
الذاكرة التاريخية من شأنها أن ترمم حطام الصورة فتركبها على نحو يكون معها هذا الإنسان قادرا على رؤية ما تصنعه يداه من خير حين يكون خيرا، و من شر حين يكون شرا، بكيفية واضحة وعميقة تستعيدها لتحكي قبح الأفعال الجنونية التي يقترفها هذا الإنسان وهو في قمة أنانيته، أو لتروي عنه نبل صنيعه إذا احتكم لضميره الحي. وهذه الذاكرة من شأنها أيضا أن تساعد الإنسان من عدم الارتكاس و الإفلاس على مستوى القيم، باستحضار مجريات أحداث من مضوا قبلنا فنعي الدرس. وليس في الوجود أعظم من quot;ألإنسانquot; المخطئ المعترف بذنوبه، لكنه في الآن نفسه،وبقلب منيب يقدم على طلب المغفرة من quot;اللهquot; ومن أخيه الإنسان.وإلا فما قيمته في هذا الكون الفسيح وقد صار فعله همجيا،ومسلكه وحشيا،لا يختلف في شيء عن أي وحش ضاري فوق أي أرض فلاة،لا يردعه قانون ولا يثنيه عن فعل الحماقات دين أو عقل. وحش آدمي متجرد تماما عن قيم الإنسانية النبيلة. تلك هي المعيشة الضنك والعياذ بالله، التي قد تتردى إليها الحياة..فكأنما يصعد صاحبها إلى السماء.
من هنا تأتي كما أسلفنا،أهمية الدراسات التاريخية بذاكرتها الحية لكي تعيد للأحداث والوقائع والأماكن quot;روح فاعليتهاquot; التي اتصفت بها خلال quot;بناء فصول الحياة المختلفةquot; وتدونها في سجل التاريخ الإنساني. بناء قد تستلهمها الشعوب في حاضرها،كقيم حاملة للمعاني والدلالات الخفية،قادرة على الإلهام وquot;النصحquot; بالإكثار من أفعال الخير بدل الشر.. ولا يفهم من ذلك بأي حال من الأحوال استنساخ منجزات من كان قبلنا و استحضارها في عملية مكرورة ممقوتة،بل الأهم هو تحقيق فعل التجاوز للحظة العجز، التي قد تسيطر على هذا الإنسان وتكبله، وذلك بإطلاق طاقاته quot;الخيرةquot; الكامنة فيه، مستعينا بالعظات والدروس والعبر الثمينة من حياة الأجداد والسلف.وهنا تعظم أهمية التاريخ/ الأصول في حياة الأمم والشعوب والحث على الحفاظ على الذاكرة الجمعية بتخصيص المتاحف وإقامة الندوات وبناء الصروح والمكتبات الوطنية التي تعمل على استمرار تعريف جيل بعد جيل،حتى وإن كان العلم بمنتجاته الصناعية والتقنية الحديثة الذكية قد بلغ ما بلغ من الأوج والنضج في حياة الإنسان المعاصر.
نستحضر ذلك كله حتى لا يعتقد كبار هذا الزمن، الذين بيدهم الأمر والنهي في هذه اللحظة التاريخية من عمر الإنسانية وحضارتها المادية،فيصنعون ويا للأسف تاريخا أسودا ليس كمثله ما يضاهيه في المقت والكراهية منذ نزول آدم ونشوء ذريته.نستحضره لنؤكد أن ذاكرة الشعوب لا تموت وإن طالها القسر والإملاء من الجهات الضاغطة الموجّهة (بكسر الجيم)، سواء بقرار ات صادرة عن محافل ومنتظمات دولية بيد الكبار دون الصغار، كمجلس الأمن الحالي بالأمم المتحدة.أو بتوجيهquot;الفكر quot; عبر إعلام المتحكم فيه من الجهات النافذة لينتج في النهاية quot;الأفعال القبيحةquot; كما أسلفنا..كل تصرف من هذا القبيل يحيد عن جادة القيم النبيلة والأخلاق الإنسانية المتوارثة عن السلف الصالح، لا بد وأن تستعيدها الذاكرة التاريخية في لحظة صفائها لتحاكم من كان وراء هذه الأفعال القبيحة فتذمها وترسلها إلى مزابل التاريخ الكثيرة بquot;أبطالهاquot;المقبوحين، كما فعلت بالجبابرة الطغاة بدءا من قارون وهامان وفرعون ونابليون، و انتهاء بهتلر وموسوليني وغولدا مايير وشارون وبوش وبنعلي ومبارك وهلم جرا.
- آخر تحديث :
التعليقات