لا تسير الأمور في الاتجاه الصحيح في تونس الحالية، التي رشحها كثير من المفكرين العرب و الغربيين للنجاح في تحقيق أهداف ثورتها، و بناء الدولة الديمقراطية المنشودة، و إنجاز القطيعة التاريخية مع quot;التراث السلطانيquot; الذي جعل من quot;الطاعةquot; سنة واجب على المؤمنين إتباعها.
و كان التقدير أن تونس هي أقرب دول ما سمي بquot;الربيع العربيquot; لقيام quot;الكتلة التاريخيةquot;، التي جعلها رواد الفكر الليبرالي شرطا أساسيا لإقامة النظام الديمقراطي، و هي الكتلة التي افترض أنها ستجمع تيارات الأمة الفكرية و السياسية حول quot;عقد اجتماعيquot; جديد يقدس التعدد في مقابل الأحادية و يقر النسبية بديلا عن الإطلاق و يرى الدين لله و الوطن للجميع.
لكن تقدير قادة الإسلاميين الذين وصلوا قبل سنة و نيف إلى الحكم، بدا مختلفا منحرفا في باطنه عن هذه الرؤية، مجافيا بالتدريج لمقاربة quot;الكتلة التاريخيةquot;، مستسلما لمنطق التاريخ العربي الإسلامي، مستجيبا تماما لتلك المحددات الثلاثة التي وضعها الفيلسوف المغربي الراحل محمد عابد الجابري للعقل السياسي العربي، القبيلة و الغنيمة و العقيدة.
لقد أظهر قادة حركة النهضة الإسلامية بعد فوزهم الانتخابي و قبل استلامهم الحكم رغبة في قيادة حكومة ائتلاف وطني تجمع كافة القوى السياسية على اختلاف أطيافها، ثم سرعان ما قاموا بتشكيل حكومة ثلاثية تضم إلى جانبهم حزبين محسوبين على الحركة العلمانية، قبل أن يساهموا بشكل مباشر أو غير مباشر في تفجيرهما على نحو حول أحدهما إلى حزب إسلامي هجين، والثاني إلى حزب شبه كرتوني لا أثر له في مركز القرار، قبل أن ينتهوا أخيرا إلى بلورة المشهد السياسي الراهن، حيث انقسمت الساحة السياسية التونسية إلى معسكرين متصادمين متنافرين، معسكر الدولة الإسلامية و معسكر الدولة المدنية، يخوضان حروب quot;كسر عظمquot; ضروس لن يقدر أي طرف منهما على حسمها بشكل سريع.
و على هذا النحو فقد ابتعد الحكام الإسلاميون بالتدريج عن خط الاعتدال و الوسطية و اللقاء التاريخي مع الآخرين، مؤمنين شيئا فشيئا بأن هذا الزمن من حقهم، كما نال قبلهم الآخرون زمنا، و أن quot;الحكم من نصيبهمquot; و quot;أمانة في أعناقهمquot; مثلما ورد على لسان قائدهم الشيخ الغنوشي، و أنهم لن يفرطوا فيهم مادام الشعب قد منحهم quot;الشرعيةquot; التي أضحى تأويلها بدل المؤقت أبديا، و هكذا قرر مجلس شورى حركة النهضة إسقاط مبادرة رئيس الحكومة حمادي الجبالي في الماء، بعد أن حسبها البعض آخر فرصة لإنقاذ الكتلة التاريخية و مشروع الديمقراطية التونسية الناشئة.
و قبل الأزمة الحكومية الراهنة، ثابر الإسلاميون طيلة الأشهر الماضية على تقديم البراهين و الحجج و الأدلة المتتالية على هيمنة روح quot;الغنيمةquot; على سلوكهم السياسي و نظرتهم للسلطة، إذ ولى رئيس الحركة المقربين منه، بل أقرباء له بالولاء أو المصاهرة، في كثير من المواقع المرموقة في الوزارة و الإدارة العليا، مستبعدا كل منتقديه المصنفين في خانة الأعداء أو غير الموالين، و قد ازدادت مع الزمن دهشة التونسيين و استغرابهم من لهفة غير مسبوقة من قبل أشخاص محدودي الخبرة و الكفاءة و الموهبة على كراسي الحكم، و تشبث شبه مرضي بالتمسك بها على الرغم من كل المخاطر التي طفت على السطح و أنذرت بدفع البلاد إلى المجهول و الهاوية إن استمرت السيرة على حالها.
و لا تقف quot;القبيلةquot; بمنأى عن التأثير عميقا في عقل الإسلاميين السياسي، إذ تواترت أحاديثهم عن وجود لوبيات جهوية وراء مبادرة حكومة حمادي الجبالي المقترحة، و لم تتردد بعض أطراف الحكم الإسلامي في توجيه تهمة التآمر إلى منطقة quot;الساحلquot; التي أنجبت جل رؤساء و وزراء البلاد خلال الفترة الماضية، و لاحت في أفق التونسيين إشارات quot;قبليةquot; غير مسبوقة لا شك أنها ستصب المزيد من الزيت على نيران الفتنة السلطوية الملتهبة.
و يبقى لquot;العقيدةquot; كلمة تعلو سائر الكلمات، فما يحدث في تونس الراهنة، لا يعدو أن يكون في نظر قادة المعسكر الإسلامي سوى حربا مقدسة على الهوية العربية الإسلامية و عقيدة الشعب المسلم الذي يأبى أن يستسلم، كما أعلن ذلك المتظاهرون الإسلاميون في شعاراتهم المرفوعة في مظاهرتهم غير المليونية يوم السبت الماضي، عن مشاعر استبدت بهم، تصور لهم أن الإسلام في خطر و أن وظيفتهم في الذود عنه ضد خصوم مفترضين هم أيضا من المسلمين، أضحى فريضة عين واجبة.
و سيعمل قادة الحركة الإسلامية بعد إفشالهم مبادرة رئيس حكومتهم الحالية حمادي الجبالي، على طرح مبادرة أخرى لن تجد قبولا أو تجاوبا لدى شركاء أو فرقاء الحياة السياسية، و لن تكون إلا إطالة لعمر الأزمة الحالية، و ستمثل حتما إصرارا غبيا على السير ضد منطق العصر و التاريخ، في ذات طريق القبيلة و الغنيمة و العقيدة الفاسدة، و وفقا لذات الدورة الخلدونية التي عساها تنبت من أصلابهم جيلا من الإصلاحيين يجبر ما أفسدوا في البر و البحر، و يستعيد ثقة التونسيين في مشروع يجعل الإسلام مقوما من مقومات النهضة و التنمية و الصراط المستقيم.