أدخل حادث الصدام العنيف بين مجموعتين إحداهما سلفية وهابية والأخر شيعية إثني عشرية، الذي استجد مؤخرا في مدينة قابس جنوب تونس، إضافة إلى عدد من الغزوات التي نفذها أعضاء في جماعات سلفية جهادية ضد تظاهرات ثقافية وفنية وسياسية، الرعب في قلوب عدد كبير من النخب التونسية التي طالما اعتقدت بأن بلادهم محصنة ضد هذه الأجواء المشرقية الغريبة، فقد عرفت تونس بأنها المجتمع الأكثر تجانسا في العالم العربي والإسلامي، والتونسيون بأنهم مسلمون عرب سنة مالكيون بالأساس، عاشت بينهم باستمرار وفي سلام ووئام وتكامل أقليات صغيرة جدا لا تتجاوز بضع آلاف من اليهود والمسيحيين والأمازيغ والزنوج والإباضيين.
و لم تعرف تونس في أحلك مراحل تاريخها العربي الإسلامي وأكثرها عنفا ما يشير إلى وجود خلفيات طائفية من أي نوع، دينية أو عرقية أو مذهبية، وراء صراعاتها وحروبها ومعاركها، التي كانت في الغالب أزمات حكم وتضارب مصالح سياسية واقتصادية واستعمارية، ولهذا فإن مظاهر العنف الطائفي المستجدة على الساحة التونسية، وإن كانت ذات طبيعة جنينية إلى الآن، تعد في منتهى الحسم والخطورة، ولا يجب أن يكون التعامل معها بمنطق quot;مستصغر الشررquot; الذي قد يقود إلى استفحال هذه المظاهر ووقوف الدولة والمجتمع لاحقا عاجزين على التعامل معها.
لقد شكل هذا الانسجام الديني والقومي والثقافي عامل طمأنينة واستقرار، غير أن الأحداث والوقائع التي عرفتها تونس خلال الأشهر الماضية شكلت عامل قلق وفزع ورهبة من أن يفقد التونسيون هذه النعمة التي طالما ساهمت في تجنيب البلاد ما عانته وتعانيه بلدان محيطها الإقليمي القريب والبعيد على السواء من شرور وصراعات وحروب أهلية داخلية مدمرة أسالت الكثير من دماء الأبرياء وساهمت في توسيع الشقة بين الإخوة الفرقاء وحولت المجتمعات إلى ساحات للثأر والدمار والفناء.
يرجع ظهور أقليات وطوائف جديدة غير معروفة من قبل في تونس، إلى نشوء الحركة الإسلامية التونسية أواخر الستينيات وبداية السبعينيات من القرن الماضي، فقد كانت هذه الحركة ذات جذور سلفية طالما لقيت تعاطفا في بلاد الخليج العربي، وخصوصا منها المملكة العربية السعودية، تماما كما كانت هذه الحركة جزء من ذلك الحراك الكبير الذي شهده العالم الإسلامي خلال وبعد انتصار الثورة الإسلامية الإيرانية، وما انجر عن هذا الحدث من عودة للثقة بالنفس في جماعات الإسلام السياسي. ولا غرابة من القول إذن، بأن أوائل السلفيين التونسيين، مثلما هم أوائل الشيعة الإثنى عشرية، كانوا أبناء للحركة الإسلامية، أي حركة الاتجاه الإسلامية التي ستتحول ابتداء من أواخر الثمانينيات إلى حركة النهضة كما تعرف حاليا، وأن كلاهما أي السلفية والشيعة كانوا يشعرون ويعتقدون بأن الحركة الإسلامية هي وعاؤهم الطبيعي.
و قد ساهم دخول الحركة الإسلامية التونسية في صدام مع نظام الرئيس السابق زين العابدين بن علي، ثم اضطرار هذه الحركة إلى الدخول في مرحلة كمون أو غيبة سياسية وميدانية خلال العشرين عاما الماضية، إلى بحث بعض مكوناتها، وتحديدا المكونين السلفي والشيعي منها إلى البحث عن حلول للخلاص الفردي خارج إطارها، في تفاعل بطبيعة الحال مع مستجدات الأوضاع الدولية والإقليمية العربية والإسلامية، التي دفعت إلى بروز تنظيم القاعدة السلفي المتطرف وعدد كبير من الجماعات المتشددة المشابهة له والمرتبطة به، كما عرفت خفوتا نسبيا للتوجهات الثورية للجمهورية الإسلامية في مقابل تركيز على الجانب التبشيري للمعتقد الشيعي والجانب السياسي الذي اعتمد على صيت المقاومة التي قادها حزب الله اللبناني ضد الدولة العبرية.
و تفضي مراجعة المشهد التونسي خلال السنوات الأخيرة لنظام الرئيس بن علي إلى الوقوف عند ملمحين أساسيين فيما يتصل بالطائفتين الجديدتين، السلفية الوهابية من جانب، والشيعية الإثنى عشرية من جانب آخر، فبالقدر الذي سلك فيه السلفيون الوهابيون طريق استقطاب الشباب التونسي المتأزم اجتماعيا واقتصاديا للانخراط في جماعات سرية عنيفة لأغراض دولية كالمشاركة في حروب القاعدة في أفغانستان والعراق وباكستان وغيرها، أو لأغراض إقليمية كالمشاركة في عمليات عسكرية محددة في تونس والجزائر والصحراء الكبرى (حادث سليمان، عمليات اختطاف الأجانب في جنوب الجزائر أو شمال مالي..)، فإن الجماعات الشيعية اتجهت أكثر للعناية بالجانب الثقافي والدعوي التبشيري من قبيل تأسيس بعض الجمعيات أو إنشاء بعض الحسينيات (دور عبادة من نوع خاص لا تلغي الحاجة إلى إقامة المساجد) أو الاحتفال ببعض المناسبات وتنظيم بعض الاحتفالات ذات الطبيعة الرمزية والشعائرية.
لقد كشفت تحركات جماعات السلفية الوهابية في تونس خلال السنوات الأخيرة، وتحديدا منذ وصول حركة النهضة للحكم، على الطابع الهجومي لمشروعها، فهذه الجماعات لم تتردد في تكفيرها للنظام الديمقراطي التعددي، وفي إعلان عدائها لكافة الأسس التي يقوم عليها المشروع التحديثي الوطني، وفي تسفيهها لعدد كبير من الحريات الفردية والجماعية والخاصة والعامة، وفي معاداتها لشرائح اجتماعية وثقافية وعلمية وفكرية، كما أظهرت ميولا واضحة لممارسة العنف ضد من تعتقد أنهم أعداؤها، حتى وصل الأمر إلى حد إطلاق أميرهم quot;أبو عياض- سيف الله بن حسينquot; دعوة صريحة لتصفية المنتمين للطائفة الشيعية دمويا، دون أن تحرك الدولة ساكنا أو تتخذ الحكومة أي إجراء وقائي لحماية أبناء هذه الأقلية الجديدة.
و قد تمكنت الجماعات السلفية الوهابية، التي أثبتت تقارير غربية ومحلية استفادتها من دعم مادي ولوجستي ضخم من جمعيات ومؤسسات دينية سعودية وقطرية، من نشر أفكارها ومعتقداتها، التي يعدها أغلب علماء السنة شاذة ودخيلة ومنحرفة عن السائد من أحكام وعقائد في المذاهب السنية الأربعة المعروفة، في صفوف شرائح واسعة من الشباب التونسي، غالبيتهم من ذوي المستوى الاجتماعي والدراسي المتواضع والثقافة الدينية والفكرية المحدودة، وهو أمر شجع هذه الجماعات على المضي قدما في الإعلان عن طموحها إلى حد الهيمنة على المساجد وتنصيب أئمة من بينها وخلع أئمة الدولة أو أئمة حركة النهضة.
و يخلص عدد كبير من العارفين بشؤون الجماعات السلفية الوهابية، وهي جماعات دينية متشددة تعتمد فهما ظاهريا حرفيا للنصوص المقدسة وتتبنى فقها جامدا يعود إلى قرون خلت، إلى أن المشروع المجتمعي لهذا التيار هو مشروع نكوصي وعنيف وجامد ومنغلق، يعمل بخطى حثيثة على تفكيك عرى الدولة الوطنية والنظام الجمهوري والمنظومة الدينية الإسلامية السنية المالكية، ولا يعترف في مجمله بمنظومة الحريات وحقوق الإنسان مثلما نصت عليها الشرعات الدولية، ولا يقيم بالا لحرية المعتقد والتفكير والرأي، كما لا يعبأ بمكانة الفنون وقيم التسامح والتعددية ومكتسبات المرأة التونسية، ويطرح في مقابل ذلك مشروعا مجتمعيا شاذا ظهرت بعض نماذجه في أفغانستان في ظل حكم حركة طالبان وبعض الإمارات التي أقامها السلفيون الوهابيون في دول سادت فيها الفوضى كاليمن والصومال ومالي.
لا توجد أي إحصائيات دقيقة لعدد المنتمين في تونس للمذهب الشيعي الإثنى عشري، أي ذلك المذهب السائد بين المسلمين الشيعة في دول مثل إيران والعراق وباكستان ولبنان، حيث أن الطبيعة المدنية الليبرالية للدولة التونسية خلال العقود الخمسة الماضية لم تقدها إلى إجراء مثل هذه الإحصائيات، كما أن منظمات المجتمع المدني لم تمتلك القدرة أو الحرية أو ربما الرغبة يوما للقيام بذلك، لكن الثابت في كل الأحوال أن ما يقارب الثلاثين عاما من النشاط الدعوي والثقافي للدعاة الشيعة لم يخلف سوى بضع آلاف من المنتسبين لمذهب أهل البيت، حيث تشير أكبر المصادر تقديرا إلى أن عدد الشيعة التونسيين لا يتجاوز العشرين ألفا، أي أقل من 0,25 بالمائة من عدد السكان، وهو ما يعني أن الطائفة الشيعية خلافا للطائفة السلفية الوهابية هي أبعد ما يكون عن إحداث تغيير نوعي في خارطة الاعتقاد الديني التونسية.
و يحيل البحث في أطروحات الشيعة التونسيين إلى أن طموحهم خلافا لطموح الوهابيين، لا يحمل طابعا هجوميا، إذ لا يطالب قادة الطائفة ودعاتها بحصة في المساجد أو تغييرا في مناهج التعليم أو مراجعة للتشريعات والقوانين بما يتفق مع أفكارهم ورؤاهم ومعتقداتهم، فضلا عن أنهم يعترفون بشكل الدولة الوطنية ويدعمون التوجهات الديمقراطية والتعددية ويعلنون تشبثهم بمبادئ الحريات وحقوق الإنسان، ويرون في كل ذلك ضمانات أساسية لحقوقهم المفتقدة، وفي مقدمتها حرية المعتقد وممارسة الشعائر الدينية، كما ينبذون الاعتماد على العنف وسيلة لفرض أفكارهم وآرائهم ومعتقداتهم.
و ينفي قادة الجمعيات الشيعية في تونس بقوة quot;أسطورة المد الشيعيquot;، التي لا تتفق فضلا عن المعطى العددي المشار إليه، مع حقائق التاريخ التي تشير إلى أن تونس عرفت في تاريخها حكم الشيعة الإسماعيلية لها لفترة ناهزت المائة عام، لكن تجربة الحكم الشيعي الفاطمي لم تخلف وراءها تونسيا واحدا يدين بالمذهب الإسماعيلي لما غادر المعز لدين الله الفاطمي المهدية إلى القاهرة، وهو أمر يعني أن التونسيين الذين ثبتوا على مذهبهم السني المالكي تحت الحكم الشيعي المباشر، لا يمكنهم أن يسلكوا مسلكا مختلفا تحت تأثير جماعات تبشيرية لا تملك غير لسانها وكتبها وأشطتها المدنية السلمية وسيلة للدعوة لمعتقداتها ومبادئها.
كما ينفي الشيعة التونسيون أي رغبة لديهم في استفزاز مشاعر الأغلبية السنية الغالبة، وأنهم لم يقترفوا يوما جرم سب الصحابة أو المس من شرف أمهات المؤمنين، وأن خلافهم مع المذاهب السنية هو خلاف حول قراءة بعض النصوص الدينية والأحكام الشرعية والأحداث التاريخية، التي اختلف حولها أهل السنة أنفسهم، وأنهم حرصوا على أن لا يأخذ الاختلاف طابع العنف والسب والشتيمة، فما يجمع المسلمين برأيهم أكثر بكثير مما يفرقهم، وأنهم كانوا دائما ضحية فتاوى التكفير وهدر الدماء المعصومة، فيما لم يثبت عند أي واحد من علمائهم المعتمدين أنهم كفروا سنيا أو أخرجوه من الملة أو أهدروا دمه.
و تبقى القضية المطروحة على التونسيين اليوم، مثلما وضح ذلك أحد النشطاء السياسيين، ليست في التصدي للشيعة أو السلفية أو الشيوعية أو الليبرالية أو العلمانية أو أي عقيدة أو فكرة أو ايديولوجية، إنما في أن يكون التصدي بالاعتماد على عنف الجماعات أو قمع السلطات أو تعسف القوانين، فإذا كان بعض التونسيين سيفعل هذا مع شيعة بلاده مثلا، فيجب أن يتأكد هؤلاء من أنهم سيبررون بذلك الأفعال ذاتها إن اقترفت في إيران ضد السنة، أو في بورما ضد المسلمين، أو في أوربا الغربية ضد العرب، فما يرضاه المرء لنفسه يجب أن يرضاه بالضرورة لغيره، ولا شك في أن الحل ليس سوى التزام الجميع باحترام حرية المعتقد، وتذكر قول علي بن أبي طالب كرم الله وجهه في وصيته لواليه على مصر الخليط بين المسلمين والمسيحيين، مالك بن الأشتر quot;الناس صنفان..أخ لك في الدين أو نظير لك في الخلقquot;، فبهذا فقط يكون الإسلام في تونس رحمة للتونسيين.
*كاتب وناشط سياسي