كثر يخطئون حين يعتقدون أن الديمقراطية هي مجرد جسد، قوانين ومؤسسات وائتلافات حكومية ومحاصصات وتوزيع لكعكة السلطة على عدد من المؤلفة قلوبهم من الأصدقاء والأصحاب والأحباب، بل هي روح عظيمة من تجلياتها حرص الغالبية على التزام قواعد الأخلاق والفضيلة والسعي الحثيث إلى الوفاق الوطني وتغليب مصالح البلاد العليا على مصالح القادة والجماعات والطوائف والأحزاب.
و كما ثمة دولة ناجحة هناك أخرى فاشلة، كما أن الديمقراطية نوعان ناجحة وفاشلة، وقد عرفت بلدان تعاقب صنفين من الأنظمة السياسية ديمقراطية فاشلة يليها حكم عسكري، فجمهورية تركيا قبل أن يستقر الأمر فيها خلال السنوات العشرة الأخيرة لرجب طيب أردوغان كانت مثالا صارخا للديمقراطيات الفاشلة التي وجدت في العسكر عقبا أو رديفا لها، يتداول معها على السلطة كلما بدا أنها ستقود البلاد إلى الهاوية.
و لم تكن دولة باكستان ثاني أكبر دول العالم الإسلامي في الفترات التي حكم فيها المدنيون بما فيها الفترة الراهنة، سوى ديمقراطية فاشلة عادة ما دفعت غالبية الشعب من كثرة فسادها إلى الكفر بها والقبول بحكم جنرال قوي يبسط يده بالقوة على المؤسسات ويفرض من خلال قوة الجيش هيبة الدولة، فيحد من فساد السياسيين والإداريين ويحقق قدرا من الاستقرار، حتى إذا ما بالغ في عسفه وعنجهيته عاد الحنين إلى حكم المدنيين فمكنوا بهذه الوسيلة أو تلك من الرجوع إلى دائرة الضوء والسلطة.
و في أمريكا اللاتينية، تكاد تكون سيرة جميع دول القارة متشابهة، لم تختلف إلا مؤخرا في بعض الدول فقط كالبرازيل وتشيلي والأرجنتين والمكسيك، إذ ومنذ تحررت هذه البلدان على أيدي سيمون بوليفار ورفاقه قبل ما يزيد عن القرنين، تداولت على الحكم أنظمة عسكرية وأخرى ديمقراطية فاشلة، وبقيت الحياة السياسية تراوح مكانها على الشاكلة نفسها مهما اختلفت ايديولوجية الحاكم، أكان من أقصى اليمين أو من أقصى اليسار، أو كان عسكريا أو مدنيا.
و تختلف quot;الديمقراطية الفاشلةquot; عن quot;الديكتاتورية المدنيةquot; في أن مؤسسات الدولة في الحالة الأولى عادة ما تكون قائمة على قاعدة الانتخاب الشفاف والنزيه إلى حد ما، فيما تكون هذه المؤسسات في الحالة الثانية نتاج إرادة الديكتاتور وتعيينه، وفيما عدا هذا الاختلاف فإن نتاج السياسات متشابه في الحالتين، إن لم يقل أن الديكتاتورية المدنية قد تكون أكثر قدرة على تحقيق الاستقرار السياسي ونسب أعلى في التنمية من الديمقراطية الفاشلة.
و تنتج الديمقراطية الفاشلة في الغالب عن الأداء بالغ السوء لنخب سياسية مفتقدة للأخلاق وغارقة في الفساد وعاجزة عن بلورة وفاق وطني وعن العمل الجماعي المشترك من أجل وطنهم، مما يخلق أجواء عامة يسودها الصراع والتناحر بدل الحوار والتكامل، وتغلب عليها الدسائس والمؤامرات، كما تفرض مفهوما منحرفا للسياسة يجعلها قرينة الكيد والنفاق والاستعداد لممارسة كل رذيلة من أجل البقاء في الحكم أو الانتصار في انتخابات أو اغتيال خصوم سياسيين.
و تكون الديمقراطية الفاشلة في جل حالاتها سببا في تفشي الأزمات المعيشية من غلاء للأسعار وتدهور للقدرة الشرائية للمواطنين وانهيار للمرافق الخدمية العامة من ماء وكهرباء وتعليم وصحة وانتشار للأمراض الاجتماعية كالرشوة والمحسوبية وسوء الإدارة وقلة الضمير والذمة، وشيوع الشعور بالاحتقار لدى عامة المواطنين للطبقة السياسية وما يصاحب ذلك من تآكل لهيبة الدولة ورموزها ومؤسساتها وممثليها.
و يحكم على الديمقراطية بالنجاح أو الفشل أساسا من خلال قدرتها على تحقيق الرفاه والتنمية للمواطنين من عدمه، فالديمقراطية لم تكن يوما غاية في حد ذاتها، إنما هي وسيلة لتحقيق غايات الرقي والتقدم والعدل والحرية والكرامة، وكأي نظام بشري فإنها ليست معصومة، فقد بينت حالة الديمقراطية في اليونان الحالي مثلا، أن الأحزاب على تنوعها وتباعد مرجعيتها يمكن أن تتواطأ فيما بينها على الشر والفساد بدل المصلحة العامة، فيتداول اليمين واليسار دون أن يقرر أحدهما كشف فساد الآخر، بل إن الواحد منهم ليعمد إلى طمس ذلك وتوريته في اتفاق غير معلن أو مكتوب.
و تسير دول الربيع العربي في رأيي، بخطى ثابتة، خصوصا منها تونس ومصر واليمن، إلى بناء quot;ديمقراطيات فاشلةquot;، حيث تدل جميع المؤشرات على أن الروح السائدة المهيمنة على الساحة السياسية، هي روح فاسدة قوامها تخطيط أطراف للاستفراد بالسلطة وسعي حثيث لتسخير مغانمها في بناء quot;ديكتاتوريات ناشئةquot; وابتعاد متراكم عن أهداف الثورات الشعبية السلمية التي أنهت الأنظمة الديكتاتورية المدنية والعسكرية على السواء وطالب بالحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية.
و لا يخفي المتعلقة هممهم بالديمقراطية في بلدان الربيع العربي خوفهم المتعاظم من انتكاس تجارب شعوبهم السياسية، وانجرافها جراء تكالب الحكام الجدد الذين على مغانم السلطة وتهافت النخب أخلاقيا، إلى الديكتاتورية من جديد، فعندما تكون الديمقراطية عند عامة المواطنين إفلاسا تنمويا وانهيارا أخلاقيا وفسادا سياسيا، يتحول الحلم الشعبي إلى quot;نابليونquot; داخلي أو quot;مهديquot; خارجي منقذ.
*كاتب وناشط سياسي تونسي
- آخر تحديث :
التعليقات