تهدد تجربة الحكم الفاشلة التي يخوضوها إسلاميو حركة النهضة صورة الإسلام ومكانته العزيزة الرفيعة لدى شرائح واسعة من التونسيين، وتمعن الجماعات السلفية عبر تحركاتها العنيفة والفظة والغليظة في تشويه الرسالة المحمدية السمحاء العادلة، وتكثف حالة الفزع والرعب والشك التي تنتاب قطاعات كبيرة من المجتمع التونسي، الذي طالما افتخر بمدرسته الإسلامية الوسطية المعتدلة الهادئة المنفتحة في الفقه والشريعة والحياة.
و قد شعر التونسيون المسلمون دائما، ومنذ تأسيس القيروان والزيتونة قبل ثلاثة عشرة قرنا ونيف، بمسؤوليتهم تجاه الإسلام، وآمنوا في مجملهم بأن الإسلام قد أودع أمانة عند المسلمين بعد وفاة الرسول محمد (ص) سنة 633 ميلادية (11 هجرية) وانقطاع الوحي بعد ذلك، واعتقدوا على يقين بأنهم إذا ما أحسنوا فهم النصوص المقدسة وتأويلها والعمل بمقاصدها الخيرية الإصلاحية العظيمة فإنهم سيسعدون بذلك أنفسهم والعالمين، كما آمنوا أيضا بأنهم إذا ما خذلوه بأفهام ضيقة قاصرة غبية فقد خابوا وضلوا وأضلوا وأشقوا به أنفسهم والبشرية.
و قد أحب المسلمون التونسيون باستمرار أن يكونوا من الشاكرين لا من المنقلبين على أعقابهم مصداقا لقوله تعالى quot;وَمَا مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِن مَّاتَ أَوْ قُتِلَ انقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ وَمَن يَنقَلِبْ عَلَىَ عَقِبَيْهِ فَلَن يَضُرَّ اللّهَ شَيْئًا وَسَيَجْزِي اللّهُ الشَّاكِرِينَ quot; (آل عمران، 144)، وأن يكونوا ممن يقوم بواجبه الإصلاحي كاملا، فقد كرهوا التعصب الأعمى والانغلاق والتواكل على إنتاج من سبقهم من المسلمين، ورأوا أن كافة المسلمين مطالبون بتحقيق قيمة مضافة لدينهم، وجعله أكثر رحمة وتسامحا وإنسانية، وأن يحببوا فيه الخلق فلا يكونوا فظين غلاظ القلب فينفض الناس من حولهم.
و قام التونسيون على مر القرون الماضية بتطوير مدارسهم الإصلاحية الإسلامية الواحدة تلو الأخرى، منذ مدرسة الإمام سحنون المالكية، مرورا بمدارس الإصلاح في القرن التاسع عشرة كتلك التي نشأت على أيدي مصلحين عظام كالشيخ سالم بوحاجب والشيخ بيرم الخامس وإبن أبي الضياف وخير الدين باشا وغيرهم كثر، ووصولا إلى مدارس القرن العشرين في ظل عهدي الاستعمار والاستقلال سواء بسواء، إذ كانت إسهامات الشيخ الطاهر ابن عاشور وإبنه الشيخ الفاضل والشيخ عبد العزيز الثعالبي والطاهر الحداد والحبيب بورقيبة التجديدية والإصلاحية غير خفية إلا على جاحد أو متطرف مغال في الدين.
و قد لفظ المسلمون في تونس دعوات التطرف الديني على أشكالها، ابتداء من دعوات الخوارج إلى حركات غلاة الشيعة من قبيل الإسماعيلية السبعية، وانتهاء بالدعوة السلفية لمحمد ابن عبد الوهاب الذي أرسل إلى التونسيين يدعوهم إلى اعتناق مذهبه الجديد، لكن علماء الزيتونة كان لهم رد بليغ عليه في رسالة مشهورة عرفت بملخص فحواها quot; أيا ابن عبد الوهاب لقد ضللت وأضللتquot;، وهو ما أقام سدا منيعا بين هذه الدعوة الشاذة عقديا وفقهيا وسياسيا وبين المؤمنين في أرض الزيتونة.
و كان وعي قادة الحركة الوطنية التونسية، ممن كافحوا الاحتلال الفرنسي وأقاموا الدولة المستقلة، شديدا بواجب التونسيين الإصلاحي تجاه الإسلام، ورفضوا كل دعوة إلى إقصاء الدين عن الحياة، تقديرا منهم أن في هذا الإقصاء تيسير لوظائف المتطرفين وتنصل من وظيفة الإصلاح والتجديد التي أوكلها الرسول محمد (ص) إلى عباد الله الصالحين من أمته، وبدونها سيفسد الدين وترتبك حياة المؤمنين، وهم في ذلك على خلاف في الرأي مع من نراهم اليوم من غلاة الحداثيين الذين يعتقدون أن إهمال الدين أو إبعاده سيفيد مشروع الحداثة، في حين أن الفوز في معركة الحداثة رهين بالنجاح في معركة تجديد وإصلاح الدين.
و يحث السلفيون المدعومون إعلاميا وماليا من قبل بعض الدول النفطية الريعية الخليجية، الخطى اليوم للنزول إلى الساحة الاجتماعية والتربوية والدعوية، معلنين تخليهم مؤقتا عن أي طموحات سياسية سلطوية راهنة، ومركزين على احتلال المساجد وإنشاء الجمعيات الدعوية وبناء المدارس الدينية الوهابية وإقامة الأنشطة الخيرية، ومستغلين انشغال الجميع بالمعارك السياسية لتخلو لهم مجالات الفعل العميق مما سييسر لهم بناء نمطهم المجتمعي المغاير بعيدا عن أعين المراقبين أو اعتراض المعترضين واستغلال مناخ الحرية للهيمنة على الروح السائدة في المجتمع التونسي، وهي روح منعتقة منذ عصور من كل نزعة دينية متشددة.
و سيستغل السلفيون ثلاثة عوامل اعترت الحالة التونسية بعد الثورة لتمرير مشروعهم في السيطرة على مقاليد المجتمع والدولة في مدى منظور قد يكون قريبا، أولها مناخ الحرية السائد، وثانيها الأزمة المعيشية المستفحلة واتساع دائرة الفقراء، وثالثها غرق الطبقة السياسية على اختلاف أطيافها من أقصى اليسار إلى أقصى اليمين في أزمة أخلاقية مفزعة، جعلت من أهل السياسة والايديولوجيا ينزلقون إلى قاع بئر الحكم الآسن، حيث يتآمرون على بعضهم البعض، ويدس أحدهم للآخر، ويغتال بعضهم بعضا أدبيا ومعنويا وربما جسديا.
و قد كان لزاما في ظل هذه المخاطر المحدقة ورياح السموم النجدية الزاحفة على عقل ووجدان وكيان ودين الأمة التونسية، على أهل الإصلاح والتجديد الديني أن تنهض همتهم من جديد، وأن لا يقعدوا في مجالسهم الأكاديمية والعلمية والنخبوية الوثيرة، وأن لا يروا حركتهم مجرد منتديات تنظيرية ومناظرات تلفزيونية ومساجلات ثنائية أو جماعية ضيقة، وأن يعملوا سريعا على إخراج مشروعهم الحضاري المحمدي من حالة الانكماش التي هو عليها الآن، إلى حركة اجتماعية وثقافية وتربوية تسعى إلى أن يكون لها مركز إشعاع في كل مجمع ريفي أو قروي، وفي كل زواية وحي من مجالات مدننا الكبرى.
و يعلم دعاة الإصلاح والتجديد قبل غيرهم أن محمدا(ص) هو صاحب الدعوة الأصلية الذي بعث رحمة للعالمين، وهو الأولى بالقدوة من سلفه الذين كان من بينهم الصالح والطالح، وكان من بينهم المجدد والمقلد، وكان من بينهم العالم والجاهل، وأن الأحاديث المزورة المنسوبة إلى ذاته الشريفة، والتي جعلت العصمة في عشرات الآلاف من السلف الذي أدرك الرسول الأعظم (ص) ولو لدقيقة واحدة، هي مجرد أحاديث موضوعة ظهرت في إطار الصراع السياسي والطائفي القاتل الذي ميز كثيرا من عهود التاريخ الإسلامي، وكان سلاح الملل والنحل والفرق والطوائف في الحصول على شرعية مكذوبة ملغومة مفتراة.
و يدرك دعاة الحق والسلم والمحبة، أن quot;المحمديquot; بخلاف quot;السلفيquot;، يرى تجديد الدين رسالة وأمانة وواجبا بدل تقليد السلفي الأعمى، ويرى الطائفية الدينية أو المذهبية أو القومية فتنة كقطع الليل المظلم مفضلا الوحدة والإنسانية والحوار والوفاق بين أبناء الوطن الواحد والأمة الواحدة، ويرى العنف جريرة ورذيلة إذا ما خرج من أيدي أولي الأمر المنتخبين بالجدارة والمروءة والعدل، ويرى العطف والمحبة والرأفة والمعذرة فضائل بدل رذائل القتل والقسوة والكراهية والحدة والرياء، ويرى قدرة الناس على أن يكونوا مسلمين وأبناء عصرهم في نفس الوقت بعيدا عن كل انغلاق أو تحجر أو جبروت.
و ستكون هذه الحركة أداة نصرة مغايرة لرسول الله (ص) عن تلك التي أظهرها السلفيون المتعصبون في ردهم على الفيلم المسيء أو الرسوم الكاريكاتورية القبيحة من استباحة للحرمات وقتل للأنفس التي حرم الله إلا بالحق وترويع للآمنين وحرق لممتلكات الغير والدولة، لأنها ستكون حركة أخلاقية دعوية تنصر خاتم الأنبياء بمساهماتها الحضارية في البناء والتشييد ونشر المعرفة والتعليم ونصرة الفقراء والمظلومين ودعم حملات تنظيف مدننا وشوارعنا وأحيائنا المليئة بالأقذار والأزبال والحفاظ على البيئة السليمة والنظام العادل والتزام الخلق الحميد في القول والفعل والمعاملات وربح رهانات البحث العلمي والرفاه الاجتماعي والاستقرار السياسي.
و لن يكون من أهداف الحركة المحمدية الدخول في أي نوع من الصراعات الايديولوجية أو السياسية أو الدينية، بل ستركز عملها كجمعية حضارية ثقافية اجتماعية إسلامية على عمق المجتمع، وستساهم في العمل على إيجاد حل للأزمة الأخلاقية المستفحلة في النخب، وعلى التصدي بخطاب المحبة والسماحة والوحدة لكل خطاب عنيف يحض على الفرقة والحقد والكراهية، وعلى مجابهة دعوات التخوين والتكفير والطائفية، وعلى تقديم نموذج تونسي فريد لإسلام بناء يستجيب للحاجات الروحية لأبنائه ولا يعيقهم عن مواجهة تحديات عصرهم وزمانهم بحثهم على التسلح بالحكمة والعلم والعمل وسبل التعارف والإنسانية.
و إن لم تشغل أيدي المؤمنين بالطاعة انشغلت بالمعاصي، وإن لم تجتهد في صناعة البديل الحضاري السلمي المتطور ملئت الفراغات بالانغلاق والجحود والتطرف، فالدولة الإسلامية في نظر الحركة المحمدية هي كل دولة يرتضيها غالبية المسلمين لأنفسهم، فهم أدرى بشؤون دنياهم، أما الشريعة فهي منظومة القوانين التي يشرعها المسلمون لتنظيم حياتهم العامة ضمن الآلية الأصلح التي يجتمعون عليها، وبما يحقق المصالح على ضوء المقاصد.