فى المبدأ العلمى المتفق عليه فى علم الوراثة عما ينشأ من نتاج فى حال زواج الاقارب المتتالى، هو نفس النتاج فى حال ما يتحدث الناس الى انفسهم لقرون طويلة، فالنتاج الحتمى فى الحالة الاولى هو نسل عليل مشوه يفقد مع الزمن خصائص القوة المطبوعة على شريط جيناته، وفى الثانية يحدث نفس التأثير إذ تتوقف منظومة التباديل والتوافيق، بعد أن يتوقف إنتاج أو ابتكار ألفاظ أو معان أو تراكيب جديدة تتواءم مع العصر ومعطياته، ولا يسمع الناس سوى ما يتوهمون أنها محاورة، وفى الحقيقة هى لا تعدو كونها رجع أصواتهم القادمة من الماضى، وتبدأ المؤشرات الاولى لمظاهر انحطاط اللغة فى منتجها الرئيس، وهو الكلمة أو اللفظ (الشائع منه أو المدون)، وهو ناتج الفكر والثقافة السائدة، فاذا كان المجتمع محافظا (وهو تعبير مراوغ أحيانا عن مجتمعات جامدة مغلقة) فلا تسمع سوى قوالب مكررة ومعادة، فيستطيع الانسان بقليل من الجهد أن يستكمل أى خطبة عصماء يبدأها أى من هؤلاء الذين يدعون أنهم حراس هذه اللغة، وفى الحقيقة أنهم أقاموا حولها سياجا من الظنون والمخاوف ، سياج عزلها عن الدنيا وعزل أصحابها، ولولا بعض من اختراقات جريئة محفوفة بالمخاطر هنا وهناك بدءا من شعراء المهجر ومدرسة أبوللو والارهاصات الاولى فى تجديد اللغة، مرورا بمعارك شعر الحداثة وقصيدة النثر، وحتى حروب تشريح النصوص وضحاياها الكثيرين، لولا كل ذلك لكانت هذه اللغة قد دفنت من زمن وتحولت الى لغة (ليتورجيات)، وحتى لا يشهر البعض فى وجوهنا السيف المعد سلفا لمن يحاول الاقتراب من هذه التابوهات ،فاننا نقول أننا هنا لانتحدث عن محتوى كتب مقدسه عند أصحابها، ولكننا نتحدث عن لغة وظيفتها الرئيسة هو التواصل بين بشر، بشر يعيشون فى مجتمع ويمارسون أنشطة حياتية تتطور مع الزمن كل دقيقة وليس كل عام، وعلى سبيل المثال فان تسميات كثيرة لمنتجات وأفكار وأنشطة ابتدعها العقل البشرى لازلنا حيارى مختلفين فى تدبير مقابلها اللغوى وفى النهاية نضع لها تعبيرات هى أقرب للانطباعات أكثر منها تسميات، مما يضطر البعض إلى فتح الاقواس لحشر الكلمات الاجنبية داخلها منعا للالتباس، وبينما ننعت أى لفظ جديد بأنه(الغريب الدخيل) يتباهى الانجليز بعدد الالفاظ والكلمات الجديدة التى تضاف لقواميسهم كل عام ويعتبرونه علامة الحياه للغتهم، فلا حياه لبشر دون أن يتوالد الناس ولاحياه لثقافة دون أن تتوالد اللغة ، أما اللغات العقيمة فزوالها مسألة وقت. وعندما قال طه حسين أن اللغة لاتملك البشر ولكن البشر هم من يملكون اللغة، كان الرجل يرى (ببصيرته) جيش المتنمرين الذين مالبثوا أن أوقعوا به فى أول فرصة واتهموه بابشع التهم، واللغة حتى تزدهر يلزم لها ظهير داعم وبالطبع يأتى عدد السنة المتحدثين بها فى مقام متقدم، لكن ذلك لم يعد يكفى مع مرور الزمن، فلم يعد كافيا عدد المتحدثين بلغة ما حتى نضمن إزدهارها لكن يضاف إسهام هؤلاء وتأثيرهم فى مجمل النشاط الانسانى، الفكرى والاقتصادى والتقنى والاجتماعى والسياسى، والاسهام هنا اخذا وعطاءا ترجمة من اللغة واليها، تبادل منافع حياتية مع كل المجتمعات، بالاضافة الى منظومة بحث علمى حر تدار باحتراف ومندمجة مع مثيلاتها فى أرجاء الدنيا، هذا هو ظهير اللغة الداعم لازدهارها ونموها وانتشارها وتفاعلها مع المحيط البشرى، خلاصة القول أن ظهير اللغة هم البشر المنتجين المبتكرين متفتحى العقول المتصالحين مع أنفسهم ومع الآخرين. ولم يلتفت أحد إلى لغة يتحدث بها أكثر من مليار من البشر، إلا بعد أن غزت منتجاتهم الدنيا وأصبحوا قوة اقتصادية هائلة مرشحة لقيادة العالم، ومن ثم اهتمت الدنيا بلغتهم وأنشأت أقسام اللغة الصينية فى معظم جامعات العالم، وهم لم يصبحوا كذلك إلا بعد أن انفتحوا هم أولا على العالم وعلموا أولادهم كل اللغات الحية لكن ليس بمبدأ (إعرف عدوك) الذى نعلم به اللغات فى مجتمعاتنا متوجسين، ولكن بمبدأ إعرف وتعلم وإنتج فتستطيع أن تقود العالم، وذهب شبابهم طلبا للعلم والبحث، وغزوا جامعات العالم المتقدم ونهلوا بلا حساسيات ولا خوف كل ما يستطيعون استيعابه والاستفاده به فى بناء بلادهم، واليوم يشكل الصينيون والهنود نسبه معتبرة جدا فى المراكز البحثية المتقدمة فى جامعات امريكا وأوربا، ومعظمهم يستجلبوا بمنح من هذه الجامعات للرغبة فى مثل هذه الانماط من الباحثين المثابرين. والكلمات العربية المنتشرة فى لغات كثيرة معظمها كان ثمرة حقبة الازدهار الكبرى وهى حقبة انفتاح العرب على العالم فى أزهى عصور حضارتهم، ولم تنتشر هذه المفردات بغزوات أو حروب بل كانت هى الانسب والاصلح ولم يجد الاخرين غضاضة فى استعمالها والاعتراف بأصولها اللغوية. ومن فرط ياسهم من الواقع المحيط بهم وبعد أن سادت أنماط مستحدثة فى التعامل فى المعلومات والاتصالات والذوبان المتسارع لفارق الزمان والمكان بين البشر، ابتدعت الاجيال الناشئة تعبيرات تخصهم وحدهم وأصبحوا ينقرون على لوحة المفاتيح ويتخاطبون بمفردات غريبة، واكتفى (حماة اللغة وحراسها) بالاستهجان ولم يكلفوا أنفسهم عناء البحث فى الظاهرة، فربما أمكن تشذيبها واستيعابها لكن العقول التى تحجرت حولت اللغة الى تابوه مقدس ممنوع الاقتراب من حروفة لابالإضافة ولا بالحزف ولا بالتعديل، ساعد على ذلك بيئة الركود الفكرى والثقافى والاقتصادى والسياسى والاجتماعى، البيئة التى تحض على الانعزال والتقوقع والخوف والتوجس بين المجتمعات وبين الافراد داخل المجتمعات، البيئة التى يتوقف فيها النمو الطبيعى للاشياء الحية وعلى رأسها اللغة، ويبدأ الناس فى استنساخ أفكارهم وألفاظهم وهم لايدرون أنها بضاعة مستهلكة كقطع العلكة التى سبق مضغها ،ولعظمتها وفضائها الرحب وشاعريتها المبهرة أنصفها كثيرين حتى من غير ابناء جلدتها وكانت لهم فيها مباحث قيمة لازالت معينا لكثيرين من طالبى البحث والتحقيق فى قضية تجديدها، وهؤلاء لم يسلموا من تهم الصقت بهم وبأهدافهم على مر العصور ،الصقها بهم مدعى الدفاع عنها وهم فى الحقيقة يدفعونها دفعا لتصبح فقط لغة (ليتورجيات ).