لا شك في أن الحالة السورية هي الأكثر تعقيدا وتعدد جوانب وجبهات من الحالات الانتفاضية العربية الأخرى. والأسباب معروفة: من خصوصية الموقع والعلاقات السورية، ومن الوحشية المتناهية للنظام السوري، ومن الاشتباكات الدولية والإقليمية هناك، وأيضا ما تهدد به الحالة السورية من تطعيم وتسخين التنازع السياسي المغلف طائفيا وعلى نطاق المنطقة كلها.
ولعل من أخطر إفرازات الحالة السورية تغلغل الإرهابيين القاعديين جراء الوحشية الأسدية المنفلتة، [إن لم يكن التشجيع الأسدي الضمني أيضا لتخويف العالم]. ومعروفة شهية القاعدة للتسلل حيثما أمكن لها احتلال مواقع جديدة، حتى ولو بقلب البندقية من الوقوف مع إلى الوقوف ضد، حيث لا مبدأ لهم غير القتل والدمار سعيا راء شبح الدولة الإسلامية العالمية العظمى بزعامة القاعدة. وليس مجهولا أن القاعديين، من مختلف الجنسيات، سبق وأن كانوا يتسللون من سوريا للعراق باتفاق وتنسيق مع نظام الفقيه. واليوم تقلب القاعدة هدف البندقية، كما مع جبهة النصرة وربما غيرها أيضا.
الملاحظ أن الجيش الحر والمعارضة السورية عموما كانوا حتى وقت قريب يقللون من خطر جبهة النصرة بحجة قلة أعداد منتسبيها. وكان ذلك في رأيي خطأ سياسيا ذا عواقب. وهو مما شجع على المزيد من تسلل المقاتلين القاعديين من أنحاء مختلفة من العالم، وربما بتشجيع بعض أوساط الخليج الحاكمة؟! أما اليوم، فإن النغمة قد تبدلت عند المعارضة، وهي الترحيب بأي مقاتل يقف ضد النظام السوري مهما كانت هويته، ومهما كانت أغراضه الحقيقية ولو كانت له نوايا سوء وشر مستقبلا بما تريده المعارضة المدنية والطامحة حقا للتغيير الديمقراطي. وقد ورد شيء من هذا على لسان الخطيب حين شبه التدخل القاعدي بالدعمين الايراني والروسي للأسد، قائلا، في الرد على انتقاد سماح المعارضة للقاعديين بالمشاركة معهم في المعارك: بأي حق تطلبون منا ذلك ولا احد بفعل شيئا ضد الروس والإيرانيين وعناصر حزب الله الذين يقاتلون مع النظام؟!
سؤال قد يبدو وجيها في وسط المعمعمة الحامية، وحيث الضحايا يتساقطون يوميا بالمئات. ولكن: هل إن عدالة الثورة تجيز كل شيء؟ وهل يجوز للثوار استخدام نفس أساليب العدو الذي يحاربونه؟ هناك من الكتاب من يستسيغون هذا المنطق برغم تصريحهم بأن هذه الحالة تجعل الحرب السورية quot; أسوأ حروب المنطقة وأكثرها بشاعةquot;- على حد تعبير عبد الرحمن الراشد. أما ما أراه، فهو أن منطق الخطيب لو جرى التوسع فيه فقد يبرر انتهاكات تقوم بها المعارضة والتجاوزات على حقوق الإنسان بحجة أن هذا ما يقترفه النظام أيضا ونحن في حالة حرب!
نعم، إن الذي يخوض يوميا نيران الحرب ويرى بعينيه تساقط الضحايا وتهجير المواطنين بعشرات ومئات الآلاف، وما يحصل للبلد من تدمير، له منطق غير منطق المراقب من بعيد. هذا صحيح؛ ومع ذلك يبقى السؤال مطروحا عما إذا كانت عدالة القضية تبيح إعادة إنتاج ما يفعله النظام نفسه، وخلافا لما تريد المعارضة تأسيسه من نظام الديمقراطية والعدالة وحقوق الإنسان؟
إن غض نظر المعارضة عن الأخطار المستقبلية المؤكدة للمقاتلين القاعديين سيعني غض النظر عن طابور خامس سرعان ما يطعن قوى المعارضة نفسها عندما تسنح له الظروف والإمكانات. وهذا هو شأن الإسلاميين عموما، من إخوان وسلفيين، كما في مصر وتونس- وكما سابقا في إيران. أما القاعديون فهم الأكثر غدرا وشراسة وشهية للاستحواذ والسيطرة والأكثر استعدادا لتبديل التحالفات بلمح البصر.
إن الموقف الصحيح ليس إعطاء صك تزكية لجبهة النصرة كما يفعل الخطيب وأمثاله، بل الإشارة للخطر، والتركيز على نقد المواقف الغربية المتناقضة من مساعدة المعارضة وزيادة التحركات الدولية لتشديد الضغوط عليها، ولإدانة المواقف والسياسات الإيرانية الروسية والعراقية- علما بأن مواقف الدول الغربية من الحالة السورية ليست واحدة.
أجل، إن هذه الحالة السورية شديدة التعقيد والتشابك وبالغة الخطورة، وهو ما يفتح المجال لتعدد الاجتهادات والمواقف. وما مر أعلاه وجهة نظر من بين وجهات نظر أخرى جديرة بالتأمل.