توعد السيد المالكي بمقاضاة quot;مروجي الفتنة الطائفيةquot;، قاصدا مظاهرات الأنبار ومؤيديها.
إن ملاحقة مروجي الطائفية، أيا كانوا، واجب وطني وأمني، بشرط تشخيص هؤلاء المروجين بصراحة، وبلا انتقائية وازدواجية في المعايير وفي التعامل. وأن يكون في تلك المظاهرات طائفيون من السنة فهو غير مستبعد، وأن يكون بينهم من يتمنون عودة البعث الصدامي، فهذا هو الآخر محتمل جدا. أما وصف جميع المتظاهرين بالطائفية والبعثية، فظلم واستخفاف بالحقيقة، وهو يتناقض مع تصريحات سابقة لبعض كبار المسؤولين بأن بين مطالب المتظاهرين ما هو مشروع ويستحق الدراسة والتعامل الإيجابي.
إن إطلاق النعوت جزافا هو ما عودنا عليه السيد المالكي وأجهزة دعايته. ولنتذكر مثلا نداءاته عشية مظاهرات ممثلي المجتمع المدني في شباط 2011، ودعوته لعدم التظاهر، وقوله نصا إن المظاهرات المزمع تنظيمها هي quot; لإحياء صوت الذين دمروا العراقquot;! هكذا بالتمام!- مع أن المظاهرات كانت سلمية وقام بها من كانوا ضمن ضحايا النظام السابق.
وجوابا على خطاب المالكي في البصرة، متوعدا من سماهم بمروجي الطائفية، يرد الكاتب الصديق الدكتور كاظم حبيب في رسالة مفتوحة موجهة له، بقوله:
quot; إن من يطالب الآخرين بأن لا يكونوا طائفيين يفترض فيه ممارسة سياسة غير طائفية، وبالتالي عليه أن لا يكون رئيسا لحزب طائفي. وحين يكون هو كذلك، فليس من حقه أن يطالب الآخرين بغير ما هو عليه.quot;
قديما قال الإمام علي [ ع] إن من أراد أن يكون في الناس إماما، فعليه أن يبدأ بتأديب نفسه- أي أن يكون نموذجا، فتكون كلمته ذات مصداقية وتأثير.
وهنا، فإن التذكير ببعض ما وقع بعد سقوط النظام البعثي مفيد وضروري.
إن ما وقع فور سقوط ذلك العهد هو قيام مليشيات حزبية شيعية في بغداد والبصرة بملاحقة بائعي الخمور ومطاردة المسيحيين والصابئة المندائيين، وتنظيم محاكم دينية حتى في النجف، وملاحقة السافرات، والاستيلاء على عدد من مساجد السنة في بغداد بذريعة عائديتها للوقف الشيعي. وفي تقرير لوكالة الأسوشيد بريس في 19 مايو 2003 معلومات عن تدخل رجال الدين الشيعة في جامعة البصرة وتوجيه تعليمات للطالبات بارتداء الحجاب، وللطلبة بإطلاق اللحى. وسرعان ما تغلغلت عناصر المليشيات في سلك الشرطة، وصارت تقوم بعمليات قتل متواصلة خصوصا في البصرة. وقد اختطف الصحفي الأميركي ستيفن فانسين وقتل بعد يوم واحد من نشره في النيويورك تايمس تقريرا عن تلك الانتهاكات وتلك المعلومات، وكيف أن محافظ البصرة، وكان من حزب الفضيلة، يعلق فوق رأسه في مكتبه الرسمي صورة كبيرة لخميني.
في تلك الفترة اتخذ السيد علي السيستاني مواقف معتدلة تحث على التهدئة وتطالب بإعادة مساجد السنة إلى أهلها. وهي مواقف كانت موضع تقدير، وكتبنا في حينه مرحبين. ولكن ما أن مرت شهور قلائل حتى راح ساسة الأحزاب والتجمعات الشيعية ومرجعية السيستاني يطالبون بانتخابات عاجلة بينما كان البلد يعاني من فقدان الأمن وعدم الاستقرار ويفتقر لأوليات شروط الانتخابات العاجلة. ووصل الأمر بهم إلى تنظيم المظاهرات، وإطلاق التهديدات. وفي اجتماع مع رؤساء عشائر الفرات الأوسط حرضهم السيد السيستاني على المطالبة بانتخابات عاجلة ، ووعدهم بالعمل على أن يتسلموا الحكم بدلا من quot; القادمين من الخارجquot;!
التذكير بهذا هو للتأكيد على أن ساسة ومرجعيات الإسلام السياسي الشيعي أرادوا منذ الأسابيع الأولى الاستحواذ على السلطة واحتكارها من منطلق: quot;حاكمية الشيعةquot; وquot; الأكثرية الشيعيةquot;، وهو ما سبق لهم التأكيد عليه في بيان قبل الحرب بعنوان quot; إعلان شيعة العراق.quot; وبعبارة، إنهم، بدلا من التأكيد على مبدأ المواطنة والوحدة الوطنية، راحوا ينفخون في بوق المظلومية الشيعية والأكثرية الشيعية، وكأن رفع الحيف عن الشيعة زمن صدام أو قبله يعني استثناء بقية أطياف الشعب والاستئثار بالسلطة والمناصب والامتيازات. وتلك سياسة ونهج طائفيان بامتياز. وعندما فجرت القاعدة مرقدي سامراء لإشعال فتنة طائفية، اندفعت أطراف الإسلام السياسي الشيعي ومليشياتها نحو الحرب الطائفية الدموية الضارية ما بين 2005 و2007 بدلا من اتخاذ موقف عقلاني لتهدئة الأوضاع ولعزل المجرمين ودعاة الفتنة الطائفية. وقد حدث ما حدث من عمليات قتل متبادلة وعمليات تهجير واسعة، داخل العراق وخارجه، وتبارى مسؤولون من الشيعة في عمليات المطاردة والتعذيب، وظهر ما عرف بquot;الدربلquot; [ مثقب كهربائي] كأداة تعذيب، ونسب لوزير الصحة فالداخلية، باقر صولاغ، [ لم تجر تحقيقات لتمحيص الحق من الباطل] سلسلة من الجرائم على أساس طائفي حتى في المستشفيات ونسب الدربل إليه.
ومنذ أيام، نشر القاضي منير حداد، الذي شارك في محاكمة صدام، تصريحات خطيرة عن وقائع الاعتقالات العشوائية وعمليات التعذيب والاغتصاب في المعتقلات والسجون والتي تتعرض لها المعتقلات والمعتقلون من السنة. وقال إنه أوصل كل تلك المعلومات للسيد رئيس مجلس الوزراء. والأكثر من هذا، ما قاله عن وجود خطط لتغيير الطابع الديموغرافي لمدينة بغداد بتفريغ عدد من المناطق ذات الأكثرية السنية من السنة. ولحد يومنا لم نقرا تعليقا رسميا على هذه الاتهامات الخطيرة . ونضيف ما يصفه صديق بقوله quot; وشهد شاهد من أهلهاquot;، قاصدين تصريحات للسيد موفق الربيعي، المستشار الأسبق للأمن الوطني ورئيس quot; تيار الوسطquot;.
في تصريحات الربيعي تقديره بان العراق يمر بأخطر مرحلة في تاريخه منذ تأسيس الدولة لكونه معرضا لخطر التقسيم والتفتيت والحروب الداخلية. وهو يصف النخبة التي حكمت وتحكم منذ سقوط صدام بكونها quot; نخبة غير ناضجة، ولا تمتلك الخبرة للحكم، وتبين أنها ضمت سراقا وغير أكفاء وطائفيين.quot;وهو يصف quot; الائتلاف الوطنيquot; -الذي يضم الأحزاب الشيعية- بالتحالف الشيعي لا بالتحالف الوطني وهو ما يجعل الآخرين أن ينظروا إليه كتجمع طائفي. ولم يفت الربيعي التأكيد على الدور الإيراني في سياسات الحكومة. وها أن وزارة الخارجية ترفض الطلب الأميركي بوجوب التزام العراق بالعقوبات المفروضة على إيران.
ومن رأي الربيعي أيضا أن مطالب المتظاهرين مشروعة، وأنها فرصة فريدة ونادرة لتصحيح مسار العملية السياسية، وبالتالي يجب التعامل معها بإيجابية، أي بدلا من الحملات العدائية والتهديد والتوصيف التهييجي.
إن العراق يمر بأزمة عاصفة تستدعي من كل عقلاء السياسة المخلصين التجرد وروح نكران الذات لمعالجة الأمور بروح المواطنة والحرص على مصالح الشعب والوحدة الوطنية، والابتعاد عن الروح الثأرية وعن التقوقع الفئوي. وإن مهنة خلق الأزمات لا تشرف أحدا، ولكنها تلحق كل الضرر بالعراق. والذيلية لنظام الفقيه منافية لأبسط القيم والمبادئ والمصالح الوطنية. وهل ننسى نهب نفطنا ومياهنا، وتحويل نهر قارون، وخطر تحويل شط العرب لمستنقع، أو مباهاة الجنرال سليماني بالدور الإيراني المكتسح في العراق؟
لنتذكر أيضا كيف كتب الدستور، والطبعات الأولى من المسودة التي كانت تنص على الأكثرية الشيعية وتفرز مكانا سياسيا خاصا لموقع المرجعية الدينية الشيعية، لكنها رفعت بعد مناقشات وضغوط، سوى أن الصيغة النهائية أدرجت مرجعية أحكام الشريعة. وها هو حزب المالكي يريد أن يقحم في تركيب المحكمة الاتحادية العليا رجال دين لهم حق نقض القوانين. فأين الدولة الديمقراطية المدنية؟!!
إن رجال الإسلام السياسي، شيعة أو سنة، عاجزون عن بناء دولة المواطنة والنظام الديمقراطي وذلك بحكم أيديولوجيتهم المنغلقة والاستئصالية. ولننظر لإيران ومصر والسودان ودولة طالبان بالأمس وغيرها. وإن العداء للعلمانية والحداثة هو نقيض الديمقراطية. وحزب المالكي ليس كالحزب الديمقراطي المسيحي الألماني، الذي هو حزب علماني يفصل بين الدين والدولة، مع التزامه بقيم المحبة والتسامح المسيحية. وأما مواصلة عمليات الاجتثاث والتمييز المذهبي السياسي، فما أحرى الساسة العراقيين بالتعلم من بعض دروس الانتقال السلمي الهادئ إلى الديمقراطية في تشيلي وأسبانيا وجنوب أفريقيا. وكم كان مهما وفعالا ومؤثرا لو كانت بدايات نظر المحكمة الجنائية الخاصة هي النظر في قضية إعدام فريق من كبار رفاق صدام عام 1979، [ عبد الخالق السامرائي والحمداني ومحجوب وغيرهم]، وكانوا من السنة، إذ كان من شأن ذلك تقديم دليل عملي على عدم التمييز وعلى توخي العدالة للجميع، وكان من نتائجه المرتقبة كسب عطف الكثيرين من المناطق العراقية الغربية ومن البعثيين، الذين ناصروا الحزب أو دخلوه بلا قناعة ومضطرين.
إن كل مخلص للعراق ولشعبه، وأيا كان مذهبه ودينه وعرقه وموقعه، مدعو لمكافحة آفة الطائفية السياسية والسياسات الثأرية، ولنشر مبدأ المواطنة والروح الوطنية. وإن للكتاب والمثقفين الموضوعيين دورهم المهم في هذا الميدان.