رصد هذه التطورات الايجابية كما أطلقت عليها لا يهدف إلى أية مجاملة بقدر ما هو تدقيق في أمور حدثت ميدانيا في الساحة الأردنية، معتقدا من جانبي أنّها استجابات لمطالب الحراك الشعبي الأردني السلمي الذي ما زال ينتظر المزيد من هذه الاستجابات وتطبيقها بما ينعكس على حياة المواطن الأردني، الذي مهما بلغت حدة نقد بعض كتابه وسياسيه، وهذا حقهم بدليل أنّهم يمارسونه وهم في الأردن دون الزج بهم في السجون والمعتقلات كما يحدث في العديد من الدول العربية وغير العربية. وهذه الممارسة لا يمكن أنّ نعتبرها منّة أو حسنة من النظام الأردني، لأنّها هي السلوك الذي يجب أن يسود وتمارسه كافة الأنظمة جمهورية أم ملكية على اعتبار أنّ الديمقراطية والحرية والكرامة والمساواة هي أساس الحكم العادل وما تصبو إليه كافة الشعوب على مرّ العصور. وفي هذا السياق ربما يقول لي البعض ( وأحترمهم جميعا مهما كانت رقعة الخلاف في الرأي ) أنّ أهل الأردن أدرى بشعابها، وأنا أقول هذا صحيح ولكنني ممن يعرفون شعاب الأردن كأهلها منذ عقود طويلة، وبعدي في المكان ومعايشتي لتجارب عربية عديدة في الحكم والممارسة، يجعلني من مؤيدي التجربة الأردنية الشعبية وطريقة تعامل الأجهزة الحكومية الرسمية معها، مما يجنّب الأردن حتى اليوم كل العنف والموت والدمار والتخريب الذي تعيشه دول عربية مجاورة فيما يزيد على عامين، وهذا التعامل السلمي شعبيا ورسميا رغم بعض الخروقات البسيطة جدا هو ما يجب أن نشجعه في حالة استجابة النظام منذ بداية الحراك الشعبي لمطالب هذا الحراك وليس بعد فوات الأوان كما تمارس وتدّعي بعض الأنظمة العربية.

ملاحظات ما بعد انتهاء الانتخابات

لقد انتهت انتخابات البرلمان السابع عشر في تاريخ الأردن، من خلال التعديلات الطفيفة التي أجريت على القانون الانتخابي متمثلة في ايجاد ما عرف ب (القائمة الوطنية) التي تمّ تخصيص 27 مقعدا نيابيا لها. وقد كان المتوقع أن يتفق المرشحون على قائمة واحدة أو قائمتين كي تفوز هذه القائمة أو القائمتان بعدد من المقاعد له ثقله في البرلمان الجديد خاصة أن عدد 27 ليس قليلا بين العدد الإجمالي للبرلمان الذي أصبح 150 ، فإذا بالناخب الأردني يجد نفسه أمام 22 قائمة..فهل هذا منطقي؟ وكيف يمكن أن يثق الناخب في نواب لم يتفقوا أساسا على قائمة أو قائمتين، خاصة أن إل 22 قائمة تقدمت ببرامج انشائية تشبه إلى حد كبير موضوعات الإنشاء التي يكتبها طلاب المدارس الإعدادية ،حيث الخطابة والبلاغة والوعود الضخمة التي لا يمكن لناخب في دولة عظمى من دول مجلس الأمن الدولي أن ينفذها داخل دولته. فماذا كانت النتيجة؟. لقد فازت قائمة (الوسط الإسلامي) بثلاثة مقاعد، وقائمة (الأردن أقوى) بمقعدين، وقائمة (وطن) بمقعدين، ثم فازت إل 19 قائمة الأخرى بمقعد واحد لكل قائمة، فمن المسؤول عن هذا التشتت؟ هل هو القانون الانتخابي والحكومة أم المرشحون الذين يركضون وراء مصالح شخصية أولا وليس مصالح شعبية وطنية عامة؟. وبعد انتهاء الانتخابات التي شهد لها بالايجابية مراقبون عديدون محليون ودوليون، استرعى انتباهي ملاحظتين:
1 . جاءت غالبية الانتقادات السلبية لمسيرة الانتخابات واتهامات التزوير والتلاعب من النواب الذين خسروا الانتخابات، سواء ممن خسروا ضمن القوائم الوطنية أو الصوت الواحد، وبالتالي لم يتبادر لذهن أحد من هؤلاء الخاسرين أن يسألوا الناخب في منطقتهم الانتخابية أو على مستوى الوطن: لماذا لم يصوت لهم؟ وبالتالي فمن خسر يشكك في الانتخابات ومن نجح فرح بها وبنزاهتها!.

2 . تسارع الذين نجحوا في الانتخابات لتشكيل ائتلافات وتحالفات علّ واحدا من هذا التحالفات يحصل على أكثرية نيابية، فيكون حظه أقوى في اختيار رئيس البرلمان أو رئيس الوزراء الجديد من بين هذا التحالف دون غيره، وقد فاز برئاسة مجلس النواب الجديد النائب سعد هايل السرور الذي كان سابقا رئيسا للبرلمان عدة دورات ووزيرا للداخلية. وأيضا بعض من ينجحوا في الانتخابات يتنكرون فورا لوعودهم، ويصبح الحرص على الموقع الجديد وارضاء مراكز قوى معينة همّه الأساسي فقط دون غيره، إلى درجة أنّ بعض النواب يصبح من الصعب أو المستحيل على بعض من أوصلوهم لقبة البرلمان أن يلتقيهم، وهذه شكوى علنية في الشارع الأردني من نسبة عالية من الناخبين إزاء الكثير من النواب.

ما هي هذه الايجابيات الواعدة في مسيرة الربيع الأردني؟

1 . شجاعة وجرأة الملك عبد الله الثاني في خطاب العرش يوم الأحد العاشر من فبراير 2012 بمناسبة افتتاحه أعمال البرلمان الجديد، عند قوله الصريح ( لقد أجريت الانتخابات على أساس قانون انتخاب جديد لم يكن مثاليا، ولكنه حظي بالتوافق الوطني المتاح).وهذا الاعتراف ينسجم مع أهم مطالب المعارضة الوطنية الأردنية خاصة الحركة الإسلامية التي من ضمن انتقاداتها رفض قانون الصوت الواحد، وجعل الانتخابات بكاملها مفتوحة لقوائم حزبية أو ائتلافية يصوت الناخب لقائمة بعينها دون اقتصار صوته على مرشح واحد. و قوله (التوافق الوطني المتاح) اعتراف ضمني بانّه لم يكن توافقا شاملا كافة الفعاليات السياسية الأردنية، مما يعني النيّة والتوجه لإجراء التعديلات المطلوبة وطنيا كون هذا القانون الحالي باعتراف الملك نفسه ( لم يكن مثاليا).

2 . التوجه الملكي نحو تحقيق استقرار واستمرار برلماني وحكومي للمدة القانونية المقررة بأربع سنوات، خاصة أنّ الأردن عانى من مشكلة تكرار حلّ البرلمان وسرعة تشكيل وتغيير الحكومات، فقد تمّ حل برلماني 2007 و 2010 بعد عامين من انتخابهما، كما أنّه في عامي 2011 و 2012 شهد الأردن تشكيل خمس حكومات، أي أنّ كل حكومة لم تستمر أكثر من خمسة شهور، وبالتالي ليس معقولا محاسبة أي وزير أو أية حكومة على أدائها أو انجازاتها في مدة لا يستطيع أي عبقري أو مخلص أن يحقق ما يطمح له الشعب، وهذا الاستقرار هو ما عبّر عنه الملك قائلا: (نريد الوصول إلى استقرار نيابي وحكومي يتيح العمل في مناخ ايجابي لأربع سنوات كاملة، طالما ظلّت الحكومة تحظى بثقة مجلس النواب وطالما حافظ المجلس على ثقة الشعب). وهذا القول يعطى مجلس النواب صراحة حق ومسؤولية رقابة أداء الحكومة والاستمرار في منحها الثقة أو سحبها منها. وهذا إلى حد كبير يقترب من بعض ممارسات الملكية الدستورية التي تطالب بها بعض الحركات السياسية الأردنية، لذلك فالمهم هو الممارسة والتطبيق وليس التسميات فقط. وهذا القول الملكي يضع الكرة في سلة النواب كي يقوموا بمسؤولياتهم كاملة خاصة في النقد المسؤول والمحاسبة المعتمدة على حقائق ومعلومات، دون أن يخافوا من أي مسؤول طالما الملك يعطيهم صراحة هذا الحق، وحمايتهم عندئذ مضمونة من الشعب الذي انتخبهم طالما هم يركضون من أجل مصلحة الشعب والوطن وليس لمصلحتهم الشخصية أو مصلحة أشخاص أو دائرة نيابية مغلقة.

3 .التوجه الملكي الجديد في اعتماد طريقة جديدة عند اختيار رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة، من خلال القيام باستشارة الكتل البرلمانية التي تمّ تشكيلها بعد إعلان نتائج الانتخابات الأخيرة وسيكون رئيس الوزراء ممثلا للأغلبية البرلمانية. وهذا نهج جديد على الساحة الأردنية من شأنه أن يعطي المسيرة السلمية للربيع الأردني زخما ديمقراطيا يلتقي مع مطالب الحراك الشعبي والحركات السياسية، وقد بدأ رئيس الديوان الملكي الجديد quot;فايز الطراونة quot; مشاوراته مع النواب والكتل النيابية حول رئيس الحكومة القادم وتشكيلة حكومته المنتظرة . وهذا التوجه الجديد في رأيي يوضح خطأ الحركة الإسلامية في مقاطعتها الانتخابات البرلمانية الأخيرة، لأنّها لو شاركت ولها الشعبية الكبيرة التي تدّعيها وفازت بأغلبية البرلمان الجديد، لكان من المحتم أن يكون رئيس الوزراء وتشكيل الحكومة الجديدة مرهونا لإرادتها واختيارها، وعندئذ سيرى الشعب الأردني ما يمكن الإسلاميون أن يحققوه بعد أن جرّبهم الشعب التونسي والمغربي والمصري، وبدأت تظهر ملامح الفشل في بعض هذه الأقطار، لأنّ من بيده السلطة ويمارسها ضمن واقع مجتمعه غير التنظير الخطابي من خارج دائرة المسؤولية التنفيذية. لذلك تتضارب في الأسابيع الماضية تصريحات مسؤولي الحركة الإسلامية الأردنية بين موافق على المشاركة في الحكومة ورافض لهذه المشاركة، لدرجة لا يستطيع المراقب معرفة موقفها الحقيقي قبل تشكيل الحكومة فعلا ومعرفة وجودهم ضمنها أم استمرار مقاطعتهم.

4 . تأكيد الملك عبد الله الثاني الواضح في اتصاله مهنئا رئيس مجلس النواب الجديد المهندسquot; سعد هايل السرورquot;، على ( أهمية مجلس النواب في إنجاح مرحلة التحول الديمقراطي التي تشهدها المملكة، من خلال تعزيز دوره في التشريع والرقابة والمساءلة)، ومشدّدا في الوقت ذاته ( على ضرورة أن يتواصل المجلس مع قواعده الشعبية والقوى السياسية لإيصال آرائهم و إشراكهم في عملية صنع القرار )، وهذا الطلب والإلحاح من الملك عبد الله الثاني يؤكد ما قلته قبل قليل عن انقطاع التواصل بين العديد من النواب وقاعدتهم الانتخابية فور نجاحهم ووصولهم لقبة البرلمان. وأيضا تلقي الرؤية الملكية هذه مجدّدا الكرة في ملعب النواب الذين ما عاد لهم حجة في أي تلكؤ لمحاسبة أي مسؤول يرتكب أخطاءا أو فسادا على حساب الوطن والمواطن.

نتيجة كل هذه المؤشرات الايجابية التي لا تترك سببا لأي تقصير أو خوف أو تخاذل من نواب البرلمان الأردني السابع عشر، هل أكون محقّا إن قلت إن الملك الأردني عبد الله الثاني يقود فعلا مسيرة الربيع الأردني كي تستمر في سلميتها وصولا لكل ما يريده ويتطلع له الشعب الأردني؟. وهناك بعض الملاحظات المطلوب من النواب بناءا على تشجيع الملك أن يركزوا عليها وملاحقتها، وهذه الملاحظات موضوع مقالة قادمة.
[email protected]