عند ممارستي لعملي الصحفي كرئيس تحرير في بغداد قبل سنوات، كثيرا ما كنت أجابه بأسئلة محرجة عن التعامل غير اللائق الذي كان يعامل به الذاهب او المسافر الى اقليم كردستان لاغراض العمل أو السياحة أو الزيارة وخاصة في سيطرات اربيل، وكثيرا ما كنت أبرر الاجابة بالضرورات الأمنية وتدابير السلامة لحماية المواطنين وضمان أمن الزوار، ومع التأكيد على ان الاجراءات المتخذة في التفتيش والاستقبال ومنح الاقامة هي مهنية وفنية امنية بحتة لا علاقة لها بالاعتبارات المعنوية العامة والخاصة والعلاقات الشخصية والشعبية والرسمية وغير الرسمية بين الكرد العرب وبقية المكونات القومية في العراق.
وفي السنوات الأخيرة كما هو معلوم استقرت قوى عاملة كثيرة من بغداد وبقية المحافظات في الاقليم لدوافع اقتصادية وحاجات حياتية ومعيشية ملحة لاقتناص فرصة للعمل من باب ضمان الرزق, وتمكنت هذه القوى من النفاذ الى أغلب مفاصل الحياة الاقتصادية والتجارية والسياحية والخدماتية وأعمال المقاولات البنائية والانشائية داخل مجتمع العمل في كردستان العراق، وتقدر اعداد هذه القوى العاملة بأكثر من ربع مليون فرد بين عامل ومقيم في العاصمة الفيدرالية اربيل والمحافظاتين سليمانية ودهوك، وتتواجد حضور هذه القوى بمجموعات وباصناف ومستويات فنية مختلفة بكثافة في المطاعم والفنادق والمحلات والنوادي والمشاريع البنائية والعمرانية والسكنية المختلفة.
وتزامنا مع هذا الحضور المميز للأيدي العاملة العراقية تواجدت قوى عاملة أجنبية متنوعة في الاقليم قبل سقوط نظام البعث المباد سنة الفين وثلاثة أغلبها من بنغلادش والهند وأثيوبيا وفلبين ودول اخرى من اسيا وتركيا وايران، وتركزت تواجدها العملي في المجالات الخدماتية والبلدية واعمال النظافة والعمالة، وتمكنت من تقديم صور وممارسات وسلوكيات ايجابية جميلة خاصة العمال الوافدين من البنغلاديش والهند، والاجمل فيهم تعلم اللغة الكردية، وهذا ما ترتب عنه علاقات انسانية وحميمية جميلة ولطيفة ومؤنسة بين الكرد وهؤلاء الضيوف الوافدين بهدف الشغل وضمان فرصة للعمل.
وبعكس هذا الواقع للمجموعة الاسيوية العاملة في الاقليم نجد ان افراد القوى العاملة العراقية العربية لم تتفاعل بمثل هذه الصورة الايجابية للاسيويين مع الكرد ومع المكونات المهنية والعملية والتجارية والاقتصادية والسياحية داخل المجتمع الكردستاني وبقيت تتكلم بلغتها وكأنها مازالت في بغداد اوالموصل او البصرة، ولحد الان ترفض تعلم لغة المنطقة التي تعمل فيها بالرغم من ضرورات حاجتها الاقتصادية والمالية والمعيشية لها، وبدلا من ان تتعلم لغة المجتمع المحتضن لهم والشريك لهم في الدولة العراقية وان تراعي وتحترم ثقافة اهل الاقليم، هذه القوى فرضت ثقافتها العربية العراقية ولغتها في اماكن العمل في المطاعم والمحلات والفنادق وفي أغلب مناطق تواجدها العاملة فيها.
والمؤلم لم يتوقف الحال عند هذا الحد بل بدأت تستغل روح التسامح والاحترام التي يمتلكه الكردي نحو الاخرين من خلال التمدد داخل الاقليم لتفرض ثقافتها ولغتها داخل المجمعات السكنية بواسطة شراء الشقق والدور والفيللات خاصة للمتمكنين منهم، ولا ندري لبعض الافراد والمجموعات منهم من أين يؤتون بهذه الأموال الهائلة لشراء العقارات والمنازل والشقق وكأنهم يملكون مناجم من الذهب والماس في العراق المنهار أمنيا واقتصاديا وانتاجيا والمحتل لاعلى المراتب في الفساد ونهب اموال الشعب والدولة.
المهم في الأمر اننا نجد ظاهرة غريبة وقد تكون الأولى في التاريخ ان تقدر قوى عاملة بسيطة من فرض ثقافتها ولغتها على مجتمع اخر كما هو حاصل في المجتمع الكردستاني الحاضن والمستقبل لتلك القوى العاملة العراقية، وقد لا نجد مثيلا ولا نظيرا لهذا المشهد الاحتلالي الثقافي في اي مجتمع ولا في اي دولة، وبالتأكيد فان هذا الأمر والاحتلال النادر يختلف عن الاحتلال العسكري عندما كانت دول الاستعمار القديم تفرض ثقافتها ولغتها على المجتمعات والدول المحتلة والخاضعة لها بالقوة والنار في السابق.
والمؤسف في هذا المشهد الغريب في كردستان ان القوى العاملة الأجنبية تتعلم اللغة الكردية بكل محبة ومودة ورغبة شخصية ومهنية وعملية، و اي فرد منهم لا يحتاج الى أكثر من ثلاثة اشهر لتعلم الكردية ويتفاعل معها ومع بيئتها بكل جدية ومودة وانسانية، وبعكس هذا نجد أغلب الايدي العاملة العراقية في كردستان ترفض تعلم الكردية وتصد التفاعل مع بيئتها ومجتمعها لاسباب لا ندري ما هي مبرراتها الموضوعية، وبالمقابل نجد ان نسبة كبيرة من الكرد قد تعلم العربية بكل انفتاحية وايجابية، ومتى ما تواجد في بغداد او اي محافظة في الوسط او الجنوب تحدث بالعربية بسهولة وبتفاعل حيوي مع ثقافة وعادات وتقاليد اهل المنطقة.
ونتيجة لهذا التناقض بين ايجابية الاجنبي الغريب وسلبية شريك الوطن نجد كثيرا ما يحس المواطن الكردي بالحرج الشديد امام الصورة الايجابية التي يقدمها العامل الأجنبي والصورة السلبية التي يقدمها الشريك العراقي وفي ظل ظروف واجواء جديدة بعيدة عن الاجواء السابقة التي فرضتها الانظمة السياسية المبادة على الواقع العراقي، ويحس الانسان الكردي بالمرارة والاسف الكبير تجاه النزعة الشوفينية والعنصرية التي يبديها البعض منهم تجاه اللغة والثقافة الكردية بالرغم من ان الكرد شريك للعرب في الدستور وعلى مستوى واحد في المواطنة العراقية.
وبغية تبني مبادرة اعلامية بنفس عراقي كردي لايجاد جسر مشترك بين الثقافتين العربية والكردية وتعريف العراقيين بواقع الاقليم وتناول الايجابيات على الساحتين الكردستانية والعراقية طرحنا على رئيس الاقليم مسعود البرزاني مشروع اصدار مطبوعة دورية متميزة ومختصة بالتعريف عن اقليم كردستان وبذات الوقت مهتمة بمسائل التفاعل الحيوي بين الثقافتين، وعلى ان تصدر مستقلة وبقرض وليس بتمويل او منحة ولكن بالرغم من قبول الرئيس للفكرة كما علم بذلك الا ان المشروع يبدو انه جوبه بالرفض.
وهذا الرفض بخصوص تبني مبادرة ثقافية كردية عراقية ذكرته بتعمد للاستدلال على تقصير السلطات الكردستانية الرسمية تجاه هذا الأمر الحيوي المختص بالتعامل والتفاعل الثقافي الحيوي والضروري بين الكرد والعرب العراقيين، لا سيما وان الواقع يسوده آثار سلبية كثيرة متراكمة من الانظمة لسابقة بخصوص التعريف الحقيقي والصادق للكرد وثقافتهم ولغتهم للتفاعل معهم باحترام وبايجابية ورغبة انسانية حقيقية.
ويبدو ان الحكومة والسلطة الكردية وبالاخص منهم رئيس الاقليم ورئيس الحكومة نائمين عن واقع الاحتلال اللغوي العربي في الواقع الكردستاني ويبدو انهما لم يهتما ولم يحسا لحد الان بمخاطرها ولا مساوؤها خاصة وان هذا الاحتلال يمارس بعنجهية ونظرة عنصرية، والأسوء ان هذين المسؤوليين لم يشعرا لحد الان باحساس الاهانة التي يتعرض لها الكردي عندما يستقبل بغير لغته في وطنه وعلى ارضه وفي مدينته بالمحلات والاسواق والمولات والمطاعم والورشات والشركات المنتشرة في الاقليم.
ولهذا ولغرض تناول هذه المسألة بأبعادها العراقية والكردستانية ومنحها الأهمية اللازمة والضرورة الثقافية الحيوية، ولغرض وقف هذا الاحتلال العربي المتسم بالعنصرية في الواقع الكردستاني، نقترح على سلطات وحكومة الاقليم اتخاذ الاجراءات التالية: فتح دورات مكثفة للعراقيين العرب المتواجدين في الاقليم لاغراض العمل او الاقامة من خلال مراكز ومعاهد تعليم اللغات بأسعار رمزية مدعومة من الحكومة، ومنحهم فرصة لا تزيد عن ثلاثة اشهر لتعلم الكردية، وطلب شهادة رسمية بذلك من مركز او معهد للغات عند ايجاد فرص العمل او الاقامة، وعدم منح فرصة العمل لمن يرفض تعلم الكردية,.
وبغية ارساء علاقات حيوية بين الثقافتين العربية والكردية وتبني حضورها في الواقع الكردستاني نقترح اطلاق مسابقة ثقافية سنوية للناطقين بالكردية من غير الكرد وخاصة العرب لتشجيع تعلم اللغة من قبل العراقيين والاحتذاء بالتعلم الجميل واللطيف للهنود والبنغلاديشيين والفلبينيين والاثيوبيين للغة الكردية، وثم لكسر الجمود والرفض العراقي لتعلم هذه اللغة الجميلة للتعبير البديع عن التعايش المشترك والشراكة الحقيقية للقوميتين العربية والكردية في العراق الجديد، والله من وراء القصد.
كاتب صحفي-كردستان العراق