خطاب العاهل الأردني الملك عبدالله الثاني غير المسبوق في جامعة مؤتة الأحد الماضي لامس الكثير من هموم المواطنين الأردنيين وتناول الكثير من القضايا التي ظلت تشكل هاجساً دائماً للملك ومواطنيه. فهو وإن كرر دعوته لمرة ثانية لتحقيق (ثورة بيضاء) فإن مثل هذه الدعوة وردت في خطاب العرش الذي كان ألقاه في افتتاح الدورة غير العادية لمجلس الأمة في مارس/ آذار الماضي ولم يتحقق أي شيء ملموس وعملي لا من جانب الحكومة ولا من جانب البرلمان ولا من أية جهة أخرى بيدها القرار والتنفيذ في المملكة الهاشمية.

لهذا فإن السؤال يظل يطرح نفسه: هل الملك عبدالله الثاني وهو يصرخ في البرية الأردنية وحده ولا من مجيب أو مبادر ومستجيب من أركان حكمه ودولته راض عما يجري أو أنه يقول المرة تلو لمرة كلاما لا يفهمه هؤلاء لعجزهم وكسلهم أم أنه كما تعود الناس لا أكثر من quot;خطاب يقال في كل مناسبةquot; ويطوى الخطاب مع ملفات اخرى تكدست على الرفوف في الغرف المطلمة وانتهى الأمر!.
ما يلفت النظر بـquot;غصّة حقيقيةquot; هو أنه ليس فقط أن كلام الملك لا يجد طريقا لحيز التنفيذ وحسب، بل تلك quot;الهوسة الإعلاميةquot; التي سرعان ما تشتعل تزامنا مع الخطاب عبر تحليلات ومقابلات ومقالات تمتد لأربع وعشرين ساعة ثم يتوقف الزمن هناك انتظارا لخطاب آخر تقتضيه الظروف ثم تستعاد الكرة مرة ثانية ... وهكذا تستمر الحكاية ويستمرأ أركان الدولة ومعهم المؤسسة التشريعية النوم في ظلال ما قاله الملك وقُضي الأمر quot;لذي فيه تسفتيانquot;.
لن اتوقف عند شعارات الحراكات الشعبية التي تعود الشارع الاردني على سماعها كل يوم جمعة منذ عامين، ولا شعارات الإخوان المسلمين الذين يركبون كل موجة بدون أجندات واضحة وعملية لواقع الحال في المملكة.
لكن ما لفت انتباهي هو رسالة quot;اللجنة الوطنية العليا للمتقاعدين العسكريينquot; إلى الملك عبدالله الثاني، وجملة المطالب التي تقدموا بها للبدء بـquot;تسطير صفحة جديدة من تاريخ الوطن والدعوة اعقد مؤتمر وطني ينبثق عنه ميثاق وطنيquot; ثم التأكيد على ضرورة تشكيل حكومة إنقاذ وطني ومجلس أمن قومي وإعادة هيكلة الديوان الملكي من شخصيات مشهود لها بـquot;الوطنية والنظافة، وتتمتع بثقة الشعبquot;.
معروف في الأردن انه إذا تكلم العسكر فعلى الجميع الانتباه جيداً وبإصغاء نظرا لم يتمتع به هؤلاء من شعبية كاسحة تفوق أي شعبية quot;يدعيهاquot; البعض من الحركات والأحزاب السياسية سواء كانت إسلامية أو يسارية أو قومية، فالعسكر ظلوا على الدوام هم quot;حزب الأردنيينquot; الشرعي والوحيد منذ قيام الدولة الأردنية الحديثة.
إذ نادراً ما تجد أي بيت أردني فيه واحد او اثنين وحتى ثلاثة من أبنائه أو بناته أو رب العائلة لم يكن في صفوف القوات المسلحة و الأجهزة الأمنية، ولعلني هنا لا أتجاوز التعبير إن قلت أن الجيش والأجهزة الأمنية لم تكن تشكل فقط درعاً حامياً للحكم الهاشمي وحسب بل ظلت ينطبق عليها بالنسبة للأردنيين ما جاء في الآية الكريمة: quot;وأطعمهم من جوع وآمنهم من خوفquot;!
رسالة المتقاعدين العسكريين تناولت التحذير من خطر الفجوة الكبيرة بين الأردنيين وبين الديوان الملكي نتيجة للتوظيف الخاطئ لرجالات الديوان الذين صنعوا الحواجز بين القمة والقاعدة من أجل منافعهم الشخصية.
وهم قالوا: إن ابتعاد القصر بما يمثله من هيبة واحترام عن معالجة الأحداث التي تقع في أماكن مختلفة من المملكة، والاعتماد على بعض المسؤولين الذين لا يحظون باحترام الشعب للتعامل معها يفاقم الوضع ويزيده تعقيدا.
والرسالة صارحت الملك استنادا لحرص العسكر في الحفاظ على العقد الاجتماعي الذي يربط بين الشعب ومؤسسة العرش منذ عشرينات القرن الماضي، بحقيقة الأوضاع التي يعاني منها أبناء الوطن، والتي تشكل نارا تحت الرماد قد تنطلق شرارتها في أية لحظة، وتكون سببا في تفجير بركان غضب شعبي لا يحمد عقباه.
يبدو أن خطاب الملك عبدالله الثاني في جامعة مؤتة استجاب كـquot;كلامquot; لما ورد في الرسالة، لكن المطلوب هو quot;أن يتبع الكلام بفعلquot;، وهذه مسؤولية جميع الأجهزة من دون استثناء.
والذي يطالب به العسكر وما يطالب به الآخرون لا يراد له معجزة لتحقيقه بقدر ما هو النية الصادقة على الفعل والعمل ولا أن تترك الأمور سادرة على هواها كما حدث في ما آلت إليه الأمور من تعقيدات في مدينة معان ومناطق اخرى في المملكة وquot;إبعاد القصر الملكيquot; بما يمثله من هيبة واحترام عن معالجة الأحداثز
واحدة من ابرز القضايا انه في بلد كان ممكن ان يكون نموذجا يحتذى، هو فقدان هيبة الدولة بكل سلطاتها وعلى رأسها مجلس النواب، الذي أصبح مسرحا للملاكمة وتبادل الشتائم والعبارات البذيئة بين ممثلي الشعب والتي تناقلتها وسائل الإعلام المحلية والأجنبية بصورة مسيئة للبلد ومواطنيه ومسئوليه والانصراف المحموم للبحث عن المصالح الشخصية على حساب الوطن.
ما بين كلام الملك ومطالب العسكر تشابه او تزاوج كبير، هناك تراخي الأجهزة الأمنية في تطبيق القوانين وتعقب المجرمين والعصابات، وانتشار ظاهرة المخدرات تعاطيا وزراعة ومتاجرة من قبل الشباب، لعدم العناية بهم وتوفير فرص عمل لهم.
ورغم أن البلد يمر في ضائقة مالية ويعاني من مديونية كبيرة، إلا أن مظاهر البذخ والترف من قبل الجهات الرسمية بادية للعيان، وإزاء ذلك فإن الديوان الملكي والحكومة لم يضعا برنامجا تقشفيا يرشد الاستهلاك ويخفف من المديونية دون اللجوء لأموال الشعب في الضمان الاجتماعي وإلى جيوب المواطنين، حسب رسالة المتقاعدين العسكريين.
ثم إن استمرار تبديد أموال الدولة في مشاريع كبيرة مما يشكل ضغطا كبيرا على موازنة الدولة ويزيد مديونيتها ولا يصل مردودها في حالة نجاحها إلا بعد عشرات السنين. ومن الأمثلة على ذلك مشروع المفاعل النووي والذي يحتاج إلى مفاعل رديف تقدر تكاليفهما بخمسة عشر مليار دينار يشكل واحدة من القضايا الملحة .
هذا فضلا عن قيام بعض أفراد الأسرة المالكة وانسباؤهم بالتدخل في القرار والقيام بأعمال تجارية خلافا لما نص عليه الدستور، مثل امتلاك شركات الطيران، وامتلاك قطع الأراضي الحكومية، وترؤس صناديق العون الاجتماعي التي تتلقى المساعدات المالية من الداخل والخارج.
وتخلص مطالب العسكر إلى التنديد بالأعطيات النقدية بالملايين وإهداء القصور الفارهة إلى بعض المسؤولين في مناطق عمان الراقية وتجنب الاعتماد على السكن الوظيفي لمن تقتضي الحاجة له، مما يخلق حنقا في نفوس أبناء الشعب الذين يعانون من سوء الاحوال المعيشية.
ومن ثم إبقاء الأشخاص الذين تدور حولهم شبهات الفساد المالي والإداري والسياسي في موقع القرار رغم أنهم لا يحظون باحترام الشعب، ولا يستطيعون دخول المدن الرئيسية حتى تلك التي تعتبر مسقط رأسهم . وبهذا فإنهم لا يستطيعون التواصل مع المواطنين وتلمس احتياجاتهم.
وأكد العسكر على ان الجبهة الداخلية هي الركيزة الأساسية لحماية الوطن، وأن الاعتماد على الأجنبي مهما كانت قوته لا يستطيع الصمود أمام إصرار الشعب على مطالبه، فضلا عن التحذير من خطر الخصخصة واستشراء الفساد وتضخم المديونية والتي قاربت على 25 مليار دولار قد بدأت نتائجها السلبية تطفو على السطح.
وهم قالوا: quot;وما الحراكات الشعبيه والإضرابات والاعتصامات التي تجري على ساحة الوطن بشكل متزامن ومتعاقب، ما هي إلا تعبير عن مدى غياب العدالة الاجتماعية وضنك العيش الذي يعاني منه المواطنونquot;.
والآن وختاماً ،،، ها هو الملك خطب وقال ووضع يده على الجراح العميقة بوصفات علاجاتها، حاله حال مطالب العسكر المتقاعدين منهم والعاملين،، فإن السؤال هو: هل النيات متوفرة والعزائم صادقة وعلى مستوى التحدي والجهوزية .. ؟ .. الزمن واعد بالإجابة وعلّ وعسى!؟