حرصت خلال شهر رمضان ان لا أفوت حلقة واحدة من مسلسل علي الوردي الذي عرض على قناة البغدادية الثانية، رغم ان الكثيرين عدوا ذلك مضيعة للوقت...

الثقة بهذه الاعمال الدرامية العراقية مفقودة، المعالجات تبدو سطحية، وأحيانا بأخطاء لا تغتفر. حال مسلسل الوردي ظهر كغيره بعد الحلقة السادسة او السابعة. وبمعزل عن الجانب الفني بهفواته الواضحة بالنسبة لمشهد عادي مثلي، فان المعالجة التاريخية أيضا مخيبة للأمل، خصوصا وان حياة الوردي تعني بشكل واخر حياة الدولة العراقية الحديثة منذ التأسيس حتى الحصار الاقتصادي.
اختصر المسلسل العهد الملكي بالسيئات، بشرطة سرية تمارس الرقابة على الناس وتعتقل كل من ينتقدها، بينما المعروف ان هذا السلوك بالطريقة السافرة التي تحدث عنها بدأ في مرحلة لاحقة. ولا أدرى على ماذا استند كاتب السيناريو عندما يقول ان نوري السعيد في ليلة سقوط المملكة العراقية، اتصل بالملك فيصل الثاني هاتفيا واتفق معه على اعتقال الوردي لأنه تجاوز الخطوط الحمراء...؟!
فلم يحدثنا وهو يرصد السلبيات بمناسبة ومن غير مناسبة عن إيجابيات كثيرة، ولم يقدم العصر الملكي بأي وجه مشرق، وهذا يتناقض مع الكثير من التفصيلات المعروفة، هو انشغل بجزئيات سلبية، وحتى على مستوى السلبيات الكبيرة مثل الاقطاع والطبقية لم يسجل حولها شيئا يذكر.
أجاد الكاتب في تحديد شكل علاقة الوردي بالحزبية، ونبذه لها، من خلال رمزية صديقيه الشيوعي والقومي ورفضه الممعن لأي محاولة استدراج حزبي له. الا ان المسلسل وقع ضحية عين قومية معادية للشيوعية، وبات الرمز الشيوعي ارستقراطيا حقودا موغلا بالثارات، وعدوا للإنسانية، ومستغلا للشباب... صحيح ان ما بين الحزبية الشيوعية والوردي ما صنع الحداد، لكن هذا لا يختصر تاريخ أقدم الأحزاب العراقية الراهنة.
توقف العمل عند ثورة 14 تموز وموقف الوردي منها، وفجأة قفز على التاريخ، إذ أهمل بالكامل الفترة بين 1959 و1970، غابت 11 سنة من المتغيرات والاحداث الكبيرة، وهي سني عجاف شهدت انقلاب شباط وصعود القومية وثم حكم البعث المطلق عام 1968، ما يثير علامة استفهام كبيرة حول الرسالة التي أراد ان يقدمها الكاتب. انني كمشاهد عادي عرفت ما فعله الشيوعيون، وعرفت مساوئ العهد الملكي، لكني لم اعرف ما فعله البعثيون والقوميون، في الستينات.
سيقال انه قدم الصورة السيئة للدكتاتور فيما بعد، وانه استعرض الظلم والمضايقات والاهانات التي تعرض لها الوردي في تلك المرحلة... صحيح، لكنه ربما يندرج ضمن محاولات تسعى لتبرئة البعث من مآسي العراق وتحميلها لشخص الدكتاتور والمقربين منه... محاولة تصطدم دائما بتاريخ سيء سبق صدام، وبواقع دموي خلق منذ شباط 1963، وهي فترات أهملها العمل الدرامي.
سنة 1970 شهدت ابتعاد الدكتور علي الوردي عن الجامعة، وطلب التفرغ لإتمام ما تبقى من أجزاء كتابه quot;لمحات اجتماعية من تاريخ العراقquot;... المسلسل قدم ذلك وفق الرواية التالية: (عميد كلية الآداب ينقل للوردي اتهاما من القيادة العليا بانه طائفي، وهنا يغضب الوردي ويطلب فيما بعد احالته على التقاعد). بينما ان علي الوردي لم يتهم بالطائفية، بل ضحية سلوك طائفي صارخ وجد طريقه منذ نهاية الستينات، وانه أيضا منع من دخول الكلية. بينما لم أر انا المشاهد عيبا في سلوك الكلية، بل وضع امامي احتمال ان يكون الوردي طائفيا.
ثم اين المعلومة التي تقول بان الدكتور الوردي توقف التأليف مع نهاية السبعينات، وكان اخر كتبه الجزء الثامن من اللمحات سنة 1978؟
فللمرة الثانية يقفز على التاريخ، ويهمل الفترة من 1977 الى 1985، وهي فترة توقف الوردي عن التأليف ووصول صدام حسين لمنصب رئيس الجمهورية، واندلاع الحرب العراقية الإيرانية، والتي شهدت أيضا الاعدامات الأكثر عددا حتى ذلك الحين.
كما ظهر العمل مربكا في سرد الحياة الاسرية للوردي في المراحل الأخيرة من حياته، وهذا طبعا لأن عائلته لم تستشر. فكيف يمكن سرد حياة اسرة رجل دون ان تستشار وتسأل؟!.
مفاصل عدة عانى المسلسل امامها... وعديدة هي الأخطاء التفصيلية الاخرى مثل ان نسمع اغنية لناظم الغزالي في نهاية ثلاثينيات القرن بمقهى يرتاده الوردي، بينما ان الغزالي بدأ مشواره في الإذاعة نهاية عقد الأربعين من القرن الماضي. او يلحن مصطفى جواد باللغة العربية وهو الماسك بناصيتها، او ان يقدم محمد مهدي البصير وكأنه ابن سبعين في فترة يفترض انه ابن أربعين، او ان يجلس الوردي في المقهى بـquot;تراك سوتquot;، او ان يكون الوردي الممثل اسمر البشرة والوردي الأصل ابيضا، او أزياء الخمسينات والاربعينات في الجامعة، او ... تفصيلات عديدة تبقى مجرد تفصيلات لولا تلك الأخطاء الكبيرة التي لم تخدم هذا العمل.
الى جانب ذلك لا يمكن القول ان المسلسل بلا جوانب جيدة، اهمها انه سلط الضوء على شخصية تغيب عن الكثير من العراقيين الذين لا يعرفون انه درسهم وراجع صراعاتهم الاجتماعية وواجه فكريا السلطات السياسية والاجتماعية والدينية والثقافية الرسمية التي خنقتهم، طيلة قرن من الزمن، والذي يصلح ان يشكل مرجعية لمتغيرات مستقبلهم...
تلك أهمية لاحظتها في كلام ابني ذي الاثني عشر ربيعا وهو يشاهد معي الحلقات الأولى من المسلسل: quot;اريد اصير مثل علي الورديquot;.