الفاو، نهر جاسم، ام الرصاص، بحيرة الأسماك... ليست مجرد أسماء مناطق بصرية، بل معارك عنيفة ضحاياها الانسان والمدينة، معارك ختمت الحرب العراقية الإيرانية وطوت معها اسرارا وفتحت جروحا.
الحرب التي بدت للنظام السابق نزهة تحولت في اخر أربع سنوات الى محرقة للدفاع عن الأرض، وعن منفذ العراق البحري الوحيد ومركزه الاقتصادي الرئيسي. ومع كل يوم يمر على ذكراها تنكشف، عن نكسة وهزيمة مذلة للإنسان والوطن.
وبدل ان يراجع النظام آنذاك ثمانية أعوام من الدمار والعبث والغباء ويصحح من اخطائها ويطوي بالعراقيين تلك الصفحة، اندفع في عدائيته وخاض حربا جديدة محتلا الكويت، ومتحديا العالم باسره، ليدخل البلاد نفق هزيمة أخرى، ودمار أكبر، يضاف له حصار اقتصادي غير مسبوق نخر جسد المجتمع ودمر الفرد.
بعد ربع قرن من نهاية أطول الحروب التقليدية في القرن العشرين، يرى اغلبيتنا ان quot;القادسية وام المعاركquot; ليستا سوى هزائم، وكثير منا جعل من ادعاءات النصر فكاهة، القلائل فقط تسكنهم تلك الادعاءات واساطير البطولة. لكن ما زلنا نؤمن بان الهزيمة هي للنظام وليست للعراق، وان من هزم هو الدكتاتور وليس نحن، بينما أصاب النظام اذ يتحدث عن نصره، كونه حافظ على بقائه في تلك العواصف، وان الأرواح التي زهقت، والبنية التحتية التي تدمرت والأموال التي تبخرت والروح العراقية التي تكسرت، لا تنتمي له بل للعراق كوطن وشعب، ان الخراب توصف به البصرة وليس صدام.
حققت الحرب غايتها بترويج النظام لنفسه امام المحيط العربي، قدم نفسه على انه حامي الامة وحارس البوابة، ليس مهما عدد القتلى، وخروج العراق من التاريخ بانشغال شعبه في الحروب. ساق الدكتاتور الشعب للحروب وعينه تنظر للملايين العربية السهلة امام الخدائع، بقي يعول على تقديم نفسه بطلا للأمة المأخوذة بـquot;هيبتهquot; واكاذيبه دون ان يفكر بالضحايا والوطن المدمر بالبطولات المزعومة والحروب الغبية.
لذلك ان الخاسر الأكبر هو العراق، ضحاياه، مستقبله وحاضره، شعبه، كل اشكال الحياة فيه التي تعرضت للتخريب عقودا طويلة من الحروب والحصار والاحتلال والإرهاب... ومع هذا ما زلنا نفتقد الشجاعة، نظرتنا لهزائمنا مجزئة، ترى النظام فقط، وتنسى ان الضحية هم نحن وان من صدق الوهم أيضا نحن، النظام ذهب كما ذهب من سبقه، والعراق يجتر الهزائم رغم المتغيرات. أداة الهزيمة هو ذاك الدكتاتور العدائي، ونحن المهزومون.
الفصل بين الجاني والمجني عليه صحيح عندما نتحدث عن القاتل وضحيته، لكن الهزيمة لا تعرف هذا الفصل، الضحية خسر تحت السياط وبشظايا الحرب ورصاص القمع، والجلاد عندما لم يترك فرصة لنهاية أفضل من نهايته.
اننا وبعد ربع قرن من تلك الحرب ما زلنا نخسر في كل محطة، رغم هذا ننسب الهزيمة للحاكم وحده، لتلك السلطة او هذه، لحزب هنا وآخر هناك، ولا نميز بين أسباب الهزيمة والمهزوم، الأسباب المباشرة هم الساسة والحاكمون، والخاسر هو نحن الشعب والوطن والنخب. الحاكمون اخذوا من العراق أكثر مما يحلمون، سلطة وجاها ومكانة لم يكونوا يتصوروها هم ومن سبقهم، ونحن نستبشر عندما يطاح بهم دون ان نحصي ما فقدناه.
وأسباب تلك الحرب ما تزال موجودة، كابوس نهر جاسم بعشرات الألوف من الضحايا ودمار المدينة يتكرر في كل محطة، نطوي ما حدث وكأنه لم يحصل، ونفرح بتغيير الرؤوس دون ان نمتلك الجرأة لتغيير شروط الحكم والنظام. عندما يرفض بعضنا اليوم الحرب ليس باعتبارها غباء كنا شركاءه بل لأنها كانت ضد إيران الشيعية، وعندما يصفق بعض اخر لها لذات السبب، فإننا بذلك نجتر الهزيمة تلو الأخرى.
حرب لثمانية أعوام تكفي لتصحي امة على حجم الخراب وتراجع نفسها وتعيد النظر برؤاها وثقافتها ومواقفها، لكنها لم تكف شعب العراق ونخبه ولم يكفه حتى الان كل الحروب الأخرى والحصار والإرهاب والقتل الجماعي وسيادة القبلية والطائفية والفساد وصعود التطرف... a
اعتدنا على ان ننسب كل الهزائم الى الحاكم ونبرئ المحكوم، ليستمر مسلسل الخسران.