خلال عقد اتسعت الهوة ولم تلتئم الخلافات، المصالحة مجرد شعار، وكثير من الاصوات العقلانية منافقة وكاذبة، ومن صدق فهو اقلية.

الاطراف السياسية بكل اتجاهاتها فعلت كل ما يعزز الشقاق والكراهية وفقدان الثقة، السياسات والمواقف والتصريحات صبت وما تزال خارج دائرة التصالح، والفجوة لا تضيق بل تتسع مع الوقت. اليوم تستعيد احصاءات الموت المجنون الارقام الكبيرة للضحايا مثلما كان الحال قبل عام 2008، القاعدة تقتل متى شاءت واينما ارادت، وعملية تهريب السجناء تطور نوعي في عمل هذا التنظيم.
القاعدة لم تغب، لازمت الحياة السياسية في العراق، لكن ديفيد بترايوس القائد العسكري الامريكي الاشهر عراقيا، نجح بإيجاد صيغة سنية قادرة على التصدي لهذا التنظيم، رابطا بين خصوم القاعدة الجدد والحكومة. حققت العملية نجاحا مهما دفع العنف للانكفاء في بغداد والانبار، وانعكس ليحقق امنا افضل في المناطق الساخنة الاخرى كديالى والموصل.
لكن النجاح تآكل تدريجيا، لأنه ظل هدنة ولم يصبح عملية استراتيجية تؤسس لمرحلة من تفاهم شاملة تتيح الحلول اللازمة لبناء الثقة. انهارت الهدنة، وبلغ الفشل ذروته مع اندلاع تظاهرات الانبار. فرط رئيس الحكومة بحلفائه في مواجهة القاعدة، ظل هو وهم في مواجهة انانية مفتوحة لا تقف عند حد.
هناك دور خارجي، اجندة، ملف سوري يحرق بادية الشام المحاذية، وجود دموي جديد متمثل بدولة العراق والشام الاسلامية، صراع اقليمي سياسي وطائفي ونفطي... عوامل متوافرة تنعكس لصالح العنف، الا ان تعليق ما يجري عليها، والتنصل من المسؤولية بالتبرير بها، هي تنصل واستسخاف بالدم العراقي.
لنترك الحديث عن التعليم والاقتصاد والصحة... لنغض الطرف عن الفشل في هذه النواحي فهو سيعقد الكلام، ويطيل المقال، ولنؤشر على الدم العراقي، على التفاهم الوطني الذي يوقف نزيفه.
لم تملك السلطة غير التصريحات ونشر قواتها بطريقة فوضوية، على كل الانحاء. مليون شرطي وجندي في البلاد اغلبهم يتمركز في العاصمة عجزوا عن استرداد الامن، سيطرات امنية خنقت المدن، اعتقالات لا تستند لمعطيات واضحة تمارس حتى على من تظاهر سلميا في الثاني من اب بساحة التحرير، تفتيش للمنازل وعسكرة المراكز والاحياء، اغلاق للطرق، وحواجز كونكريتية.. اساليب بدائية ومهترئة تستسهلها الانظمة والحكومات الفاشلة، وتفتقر اولا لمعايير حقوق الانسان، ولو تنازلنا عن تلك الحقوق، فهي لا تتوفر على الشروط الامنية القادرة على التصدي لتنظيم شبحي يعشعش بيننا.
فشل حكومي غير قابل للتبرير، والتبرير امعان في الاستخفاف بالناس ودمائهم المسفوحة على عتبة فشل quot;زعيمquot; لم يعرف ان يكسب حلفاءه الشيعة الى جانبه، فضلا عن السنة والاكراد. الحديث عن الاجندة الاقليمية يصطدم بسؤال حول ما قامت به الجهات المعنية من خطوات لتفكيك هذه الاجندة في الداخل العراقي.
ولماذا تخوض السلطة غمار الصراع الاقليمي اذا لم تكن مستعدة لحماية امن العراقيين امام تداعيات هذا الصراع على الداخل؟
لماذا سمح المالكي بان تصبح المناطق السنية مجددا مكانا خصبا لعبث القاعدة وقاعدة لانطلاقها؟. ليس مسموحا ان يقول ان ذلك حدث لأن خصومه ارادوا، بل حدث ذلك لأن الحزب الحاكم ليس حزب دولة، وهو الى جانب اطراف العملية السياسية الاخرى لم يمتلكوا مشروعا للسلم الاهلي.
ازمة العراق الامنية اكبر من ان يعالجها انتشار للقوات، او تحل بمصالحة يقودها طبيب، ولا يمكن لحزب نرجسي تحقيق شروط التقارب العادلة للحيلولة دون تفاقهما. الازمة تستدعي اتفاقا واسعا يعالج كل نقاط الاختلاف على بناء الدولة، ومن ضمنها الدستور. وهذا لن يحصل بخطوة هنا ومبادرة هناك، بل باستراتيجية تتفق عليها الاطراف السياسية والدينية والاجتماعية، ولا تناط بشخص واحد.
الدم العراقي لم يعد يتحمل هذا الاسفاف والاستخفاف والتجارب، ولن يحقن الا بقرار شجاع يخلق اسس التعايش او يضع نهاية لوحدة هذا البلد. المرحلة المقبلة لابد ان تنطلق من قاعدة مركزية غير قابلة للمساومة والتهاون، وهي ان ارواح العراقيين اهم من مكاسب فئوية وطائفية او وحدة وطن ولد مشوها.