لم تكن معرفة الطابع البناء لمقالي في جزئه الأول بالامر الصعب، فالعنوان وحده كافٍ لمعرفة ان المقال كتب بروح الحرص، فتعبيرquot;خيبة الاملquot; في عنوان المقال، يعني انني ممن كانوا يعلقون آمالاً على التحالف و لكن ليس ممن يعطون صكاً على بياض استنادا لولائي لهذا الطرف أو ذاك كما فعل البعض بدون تمحيص.
على أن الروح البناءة التي ادعيها و التي أثنى عليها بعض المعلقين اغفلها بعض آخر عن قصد لاسباب سترد في السطور التالية. و يصبح احيانا من الضروري تتبع انماط التفكير من خلال التعليقات الواردة على مقال ما، كما و أن امورا اخرى طرحها المقال بدت لكاتبها في منتهى الوضوح، ثم اذا به يجد أن بعض المعلقين لم يحاولوا فعلا ان يفهموا لانهم مسكونون بموقف مسبق. و لعل اكثر التعليقات التي تستدعي التأمل، ما أورده لكم ادناه:
quot;للاسف لم اتمكن من اكمال المقال لانه يدور في فلك الاعتراض على الحكومة ويطالب البرنامج الانتخابي ان يدور في نفس الفلك متناسيا ان الانتخابات ستأتي ببرلمان جديد مهما بقى فيه من الكتل الحالية، وهي التي ستختار الحكومة الجديدة، ما يعني ان كل الانتقادات على الحكومة الحالية ستذهب مع الريح بتكليف الحكومة القادمةquot;
في هذا التعليق نشعر بقوة بوجود يقين ايماني يشبه يقين المتدينين في أن انتقالنا إلى الفردوس يجعلنا في غنى عن التفكير بهموم الحياة الدنيا. و ليس الامر بمستغرب، فإن بعض انماط التفكير العقائدي تقترب و تتماهي مع اليقين الايماني، و هذا يحتاج الى مبحث خاص لسنا بصدده الآن.
و لكن هل حقا ان تيارا أو تحالفا ما ينوي المشاركة في الانتخابات و يطرح نفسه بديلا او حتى مشاركا في السلطة في غني عن توجيه انتقادات إلى الحكومة لأن هذه الانتقاداتquot; ستذهب مع الريحquot;؟
لا تحتاج القضية إلى أن يعيش المرء في مجتمع ديمقراطي سنوات طويلة بل يكفي أن يكون مطلعا اطلاعا بسيطا على أي برنامج انتخابي لاي كتلة أو حزب في أي بلد ديمقراطي سيجد ان هذا الحزب او الكتلة ستنطلق، اول ما تنطلق، من مناقشة سلوك الحكومة القائمة و ما حققته و ما اخفقت في تحقيقه و يجعل من ذلك نقطة انطلاق لطرح البديل وطرق الاصلاح و سيخاطب جمهور الناخبين قائلا : هذا ما فعلته الحكومة ، و هذا ما نعدكم بتحقيقه!
فما الذي حدا بكاتب التعليق الى معارضة امر بديهي مثل هذا؟
مهمات الحوار الفكري باتت لا تقتصر على مناقشة الفكر الآخر بل أن تتقصى جذور التفكير نفسه. و كما ذكرنا سابقا يندرج هذا ضمن سياقات الانحيازات العقائدية، نشير هنا باختصار الى احدى تمظهراتها الا و هو التحزب الذي لا يطيق اي انتقاد لجهة يؤمن بعصمتها (حزب، تحالف أو فرد). و لكن الامر هنا اكثر تعقيدا من ذلك و يقوم على ازدواجية الولاء للحكومة من جهة و quot;لمعارضيهاquot; من جهة اخرى، فالكثير من المؤازرين للبرنامج و quot;بدون تحفظquot; هم في نفس الوقت ممن يسعون الى المهادنة التي تحاول طرح بديل دون اغضاب الحكومة و هذا الامر جديد تماما.
هذا الامر ، أي عدم تحمل اي نقد مهما كان بناء، هو الذي حدا بكاتب التعليق الى أن يكتب إنه لم يستطع اكمال قراءة المقال. التبرم من المقال و عدم اكمال الموضوع بحلقته الاولى كان مرتبطا بالأمر التالي: انه يطرح تساؤلات، و ينتظر ان يكون الموقف المقابل واضحا أي أنه يطالب بإجابات، أن تكون مع أو ضد هذا المقترح أو ذاك: مع فصل الدين عن الدولة أم ضده؟ مع الانتخاب المباشر على اساس المواطنة للمراكز السيادية ام ضده؟ مع تحديد رواتب و مخصصات الرئاسات ام ضده؟ ترضى ام لا ترضى على أن تتحمل الميزانية علاج البرلمانيين في الخارج؟ تؤيد ان ترفض الصرف على المناسبات الدينية من المال العام؟ و غيرها الكثير. كان عدم اكمال قراءة المقال أو تجاهله الوسيلة الوحيدة لتجنب الإحراج.
و بما أن موضوعنا هنا لن يكتفي بطرح انواع ردود الفعل التي رافقت نشر الموضوع بل يسعى الى اكمال بعض المقترحات التي اهملها البرنامج، فإن ذلك سيكون مناسبة جيدة لنناقش مثلا ما لم يسعنا ان نناقشه في الحلقة السابقة، و لكن لن يكون بمستطاعنا طرح الفكرة التالية دون مناقشة الواقع الحالي الذي كرسته الحكومة.
أن الاقتصاد الريعي وحيد الجانب هو امر أشار اليه البرنامج ، و لكن ما لم يناقشه البرنامج هو طريقة الانفاق الحكومي التي تستهلك كامل الواردات او جلها. فالرواتب الضخمة لشاغلي سلم الوظائف العليا، و ايفاداتهم و فواتير علاجهم في الخارج و مخصصاتهم و المكافئات غير المعلنة و رواتب اجهزة الدولة المتضخمة، و الجيش و قوى الامن ذات التعداد الهائل و الكفاءة المتدنية، و مكافئات المهجرين و المناضلين و السجناء ، و البشمركه و غيرها، كل هذا حتى لو لم نأخذ الفساد بنظر الاعتبار، تجعل من المستحيل تحقيق تراكم مالي لغرض الاستثمار و اعادة بناء البنية التحتية التي تعرضت إلى خراب ليس له مثيل. إن واردات الدولة تستعمل للترضيات و الكسب السريع من اجل اعادة الانتخاب و ليس اعادة البناء.
إن برنامجاً يسعى لمعالجة ذلك سوف يدرس توفير موارد لها، ارى انها تأتينا من مصدرين محتملين:
bull;ترشيد الاستهلاك و الانفاق العام
bull;القروض الخارجية
لقد طرحنا في الحلقة الماضية قضية تعداد قوى الامن المتضخمة على سبيل المثال لا الحصر و امكانيات توفير موارد بتقليصها و زيادة كفاءة ما يتبقى منها و لا شك ان هناك الكثير من الاحتياطات الأخرى التي تؤدي الى تقليص الانفاق و توفير واردات للاعمار. و لقد كانت الآمال معلقة على الشخصيات المعروفة في مجال الاقتصاد ممن يدعمون التحالف أو ترشحوا ضمن صفوفه بأن تقوم بتقديم مقترحات ملموسة و برنامج محدد بدلا من السكوت على الفوضى السائدة في مجال الانفاق الحكومي.
النقطة الثانية التي تتعلق بالقروض من الدول و المؤسسات العولمية نجدها مرتبطة باعادة بناء سياسة خارجية متوزانة تتوافق مع توجهات المجتمع الدولي من جهة، و باحلال الامن بتوفير حل سياسي يسحب البساط من تحت اقدام قوى الارهاب و القاعدة من جهة ثانية.
ان العراق بسبب خرابه و هشاشة وضعه كان عليه ان يصوغ سياسة خارجية حذرة تبتعد عن الانحياز لأطراف الصراع القائم و أن لا تقوم بدعم معلن و غير معلن لأحد اطراف هذا الصراع.
و هكذا نجد أنه ليس من الممكن تقديم اي مقترح بناء بدون نقد الاداء الحكومي و هذا امر بديهي و علينا أن لا نعول على أن هذه الامور سوف تذهب مع الريح اوتوماتيكيا.
رسالة على بريدي الالكتروني
وصلتني رسالة على بريدي الالكتروني تناقش الموضوع نفسه، ألخص لكم ما كتبه مرسلها في ثلاثة أمور:
أولا: أن برنامج التحالف الوطني قد غطى كل مناحي الحياة في العراق بصورة شاملة و وجد الحلول لها، ثانيا: لا يوجد حزب في العالم يعلن انه سيكون معارضا ثم ثالثا و أخيرا، يتهمني مرسل البريد بأنني quot;اصطف مع القاعدة و ايتام النظام السابقquot;!
الامر الاول ناقشناه في الحلقة الاولى، و وجدنا ان البرنامج قد فوت الكثير من النقاط الحساسة في الوضع العراقي دون الاشارة لها أو أن ما تناوله منها كان غير محدد و عديم الملامح، و لكن هنا ايضا تعود الجذور الفكرية لمثل هكذا ملاحظات الى الإيمان اليقيني بمن هم فوق، فقول مرسل الرسالة ان البرنامج شمل مناحي الحياة كلها و وجد لها الحلول، فيها مقاربة واضحة مع المتعصبين من الاسلاميين الذين يرون أن القرآن قد احاط بكل شيء. البرنامج الحالي للتحالف المدني هو قرآن الذين لا يرغبون في التفحص الناقد.
أما ما تقوله الرسالة بعدم وجود حزب يعلن إنه سيكون معارضا في حالة عدم حصوله على مايكفي من الاصوات فهو امر مثير للاستغراب. فالكثير من الاحزاب تعلن انها ستكون احزاب معارضة خصوصا و ان وسائل استطلاع الرأي العام في اوربا قد اصبحت دقيقة الى الحد الذي يكون الحزب معه قادرا على معرفة عدد المقاعد التي سيفوز بها و التي سيفوز بها مخالفوه بشكل يتحمل هامشا بسيطا من الخطأ.
دفعني هذا الى أن امعن في قراءة الرسالة حتى و جدت أن كاتبها قد فهم المعارضة على انها فقط معارضة مسلحة. هناك اذن شرخ كبير في ثقافتنا الديمقراطية حتى بين المثقفين، فالبعض يعتبر المعارضة تتعارض مع العملية السياسية، و الايمان بالعملية السياسية يعني تأييد الحكومة، ثم أن المعارضة هي العمل العسكري المسلح. لقد تحدثت عن المعارضة البرلمانية السلمية البناءة و أظن انني كنت واضحا بما فيه الكفاية.
بات من الضروري توضيح أمر آخر حسبته واضحا. أجد العملية السياسية القائمة حاليا على ما يعتورها من عيوب هي الآلية الصحيحة لاصلاح الحال في العراق و لكن كثيرين، بما في ذلك مثقفون، خلطوا بين امرين مختلفين، المشاركة في العملية السياسية و احتمال القيام بدور معارضة برلمانية فوضعوا بينهما تعارضا. إن الايمان بالعملية السياسية لا يعني الرضا عن الحكومة و البرلمان و اجهزة الدولة انما يعني ان العملية السياسية كأطار لا زال صالحا. العملية السياسية و الحكومة امران مختلفان تماما فقد يكون المرء غير راض عن اداء الحكومة و لكنه مقتنع ان طريق العنف ليس طريقا للاصلاح.
ظاهرة جديدة
لا اود ان اخمن و ان اتحدث بدون دليل عن المعلقين السابقين الذين اوردت حججهما كمثال، و لكنني هنا الفت الانظار الى ظاهرة واسعة الانتشار سائدة بين المعارضين السابقين للنظام السابق و منهم اصدقاء لي ممن عاشوا لفترة طويلة في الخارج. لقد انطلق الكثير من هؤلاء من عدة اعتبارات مترابطة لدعم حكومات ما بعد 2003 و خصوصا حكومتي الجعفري و المالكي و مارافقهما من خراب، و تعود الاسباب مجتمعة او فرادى الى:
bull;انهم حققوا مكاسب مادية ضخمة
bull;انهم كانوا مسكونين بالانتقام بسبب جرائم النظام السابق
bull;بعضهم اكتفى بأنه اصبح قادرا على زيارة العراق بعد ان حرم من زيارة اهله طويلا
bull;بعضها كانت لاعتبارات الطائفية
يفترض أن لا يندرج اي من هذه الاسباب لتبرير الرضا عن اداء الحكومة و القيام بأهمال مقصود لعناصر تقييم موضوعية تخص الاداء الحكومي خصوصا و انها تمس حياة ملايين المواطنين العراقيين مثل: الفساد و انعدام الامن و الخدمات، و التجييش الطائفي، و المحاصصة، و الافتقار الى الكفاءة و اقصاء التكنوقراط، و مساهمة الحكومة و احزابها وكذلك طائفيين سنة و قوميين كرد متطرفين في إذكاء الظلامية الدينية و مفاهيم الخرافة و التجهيل بمختلف تمظهراتها و مظاهر العداء القومي الشوفيني و الانعزالية القومية... الخ.
صندوق الاقتراع و الديمقراطية
في العراق يوجد صندوق اقتراع و لا توجد ديمقراطية. ينبغي السعي للانطلاق من صندوق الاقتراع نحو ديمقراطية شاملة، بدون ذلك من الممكن ان يتحول صندوق الاقتراع إلى نقيضه و ان يستعمل ضد الديمقراطية الحقيقية حين لا يتوفر على متلازمات و ارتباطات عضوية اخرى طورتها التجربة الاوربية المتقدمة و جعلتها متزامنة، منها حرية التعبير و الصحافة و حرية التظاهر و الشفافية و نقل محاضر جلسات البرلمان على الهواء و جعل محاضره متاحة للكل و اعلان الرواتب و المخصصات لجميع المسئولين ... الخ
الديمقراطية هي منهج حياة شامل يشتمل، علاوة على ما ذكرنا، على ضمان ممارسة الحريات الشخصية. و هذه الامور غائبة تماما عن عراق اليوم حيث الصحافة و الفضائيات غير متاحة لأحزاب المعارضة و خصوصا اذا ما كانت جادة في نقد الاداء الحكومي و فضح الفساد او نقد تدخل رجال الدين في المسيرة السياسية. و لا تمثل الحرية المتاحة لوسائل الاعلام غير الناقدة للاداء الحكومي أي معيار للديمقراطية و حرية التعبير. لقد تم اسكات جميع الفضائيات الناقدة تقريبا، و شهد العراق تراجعا عاما في مجال حرية التعبير و ستشهد الفترة القادمة المزيد من التقليص في هامش الحريات، هذا اذا لم يشهد الوضع السياسي تغييرا جوهريا (و هو امر بعيد الاحتمال)، و تمثل صحيفة المدى بصوتها الناقد امرا مفروضا على الحكومة ستسعى للخلاص منه في أقرب فرصة.
استعمل صندوق الاقتراع مرارا ضد الديمقراطية. و قد يعطي صندوق الاقتراع قوة اضافية لحكومة فاسدة او ظالمة لأنها ستستخدمه حجة للإجهاز على خصومها بحجة انهم ضد الشرعية. الضمان الوحيد للانطلاق من صندوق الاقتراع الى نظام ديمقراطي هو توفير عناصر أخرى متلازمة ذكرناه في اعلاه، كما و قبل ذلك تحويل صندوق الاقتراع الى آلية تصحيح و تعديل لجهاز الدولة و لدور البرلمان الرقابي و التشريعي.
و من مستلزمات الديمقراطية وجود معارضة برلمانية حقيقية. لا يتعلق الامر بأن اعضاء البرلمان في اغلبهم يتقاضون رواتب ضخمة دون اداء عمل بناء و هم بشكل أو آخر مرتشون مقابل سكوتهم بل يتعلق قبلها بنظام المحاصصة و استنزاف اية معارضة من قبل الحكومة و القيام باحتواءها و اسكاتها.
انعدام الوفاء وهروب من التشخيص
ورد في النقطة الخامسة من المحور السياسي للبرنامج ما يلي:
ضمان الامن والاستقرار , والعمل على التخلص من تركة الحقبة الدكتاتورية البغيضة والاحتلال الاجنبي ومن كل اشكال التبعية والهيمنة الاجنبية واستعادة وتعزيز السيادة الوطنية الكاملة والاستقلال.
لا يوجد ما هو اشد وضوحا من هذه الصياغة الآيديولوجية التي عفا عليها الزمن و التي تذكر بنمط تفكير فترة الحرب الباردة و لكن عدا ذلك فإن الفقرة تدل على الدرجة التي طاش فيها التشخيص قصدا او سهوا. فالمآسي التي يشهدها العراق حاليا يتحمل مسئوليتها اولا الحكومة و الاحزاب المسيطرة على القرار، و لم ترد هذه الصياغة الا لعدم الرغبة في نقد الحكومة كما ذكرنا سابقا و لكن الامر يتعلق ايضا بعدم الوفاء.
كل النخبة السياسية في العراق، من المعارضين للنظام السابق و من الشاغلين للمراكز الحكومية و الحزبية و البرلمانية بما في ذلك كاتب أو كاتبو البرنامج مدينون بوجودهم في البلد و مشاركتهم في العملية السياسية للامريكان.
لا شك ان الامريكان قد اقترفوا اخطاء في العراق و تسببوا في مقتل الكثير من الابرياء بدون داع و وضعوا ثقتهم فيمن لا يستحق الثقة و لكن اخطاء احزاب الاسلام السياسي و الحكومة و الساكتين عن النقد و التصحيح هم المسئولون الرئيسيون عن الوضع الكارثي في العراق قبل غيرهم.
و على عكس ما يعتبره البعض من أن هذا البرنامج على علاته هو افضل ما موجود اجد ان البرنامج بصيغته الحالية سوف يلحق الضرر بعملية الديمقراطية و يستنزف طاقة الشباب في البحث عن برنامج مدني ديمقراطي حقيقي و يؤجل مرة أخرى الحلم بتأسيس مجتمع مدني لسنوات اربع لاحقة بسبب امتصاصه لتوق جيل الشباب للرغبة في الخلاص و تضليلهم سوى قصد و اضعوه ام لم يقصدوا
التعليقات