&
عاشقو صدام يحبون الصورة التي رسموها عنه. إسقاط نفسي حفزته خطابات وشعارات القائد. صورة عن بطل واجه اعداءه، وقُتل لأنه رفض "الذل". أراد الخير للعراق و"الأمة" العربية، والمتآمرون لم يتركوه يفعل الخير...
إنها الصورة النمطية للحاكم في الثقافة العربية. الفارس، القوي، الذي لا يجرؤ أحد على النظر الى عينيه. وساعد على ذلك بالنسبة لصدام الكاريزما التي ظهر عليها. زعيم يقف دون أن يحني ظهره، رافعاً رأسه، يتحدث بتأن، ويهدد ببرود، والاخرون يظهرون أمامه كأقزام. الا أنها مجرد صورة، لا تصمد في قبالة أن الكاريزما والشعارات والخطاب مجرد مظهر. جوهر القصة هزيمة مستمرة للعراق والعالم العربي على يد صدام حسين.
يمكن تفهّم أن يحب شعب او شريحة او عالم، دكتاتورا لما أنجزه. يُفهم أن جزءا من الشعب الصيني يحب ماو تسي تونغ، وبعض الاسبان يعشقون فرانكو. الاثنان حققا شيئا مهما لبلديهما. اخلاقيا لابد من ادانة طغيانهما وبحر الدماء التي أراقوها لتحقيق غرضهم، الا أنهما حققا شيئا. الاول مهد لبناء دولة صناعية عملاقة في مجتمع زراعي، والآخر وحد اسبانيا وأبعدها عن التورط في انهيار هتلر. أما عاشقو الدكتاتور لأجل صورة كوّنوها عنه وهي مجرد سطح، فهم مثيرون للشفقة والسخرية.
هؤلاء العشاق مطالبون بأن يحدثونا عن شيئ كبير وحقيقي قدمه صدام للعراق والعالم العربي. إن امتلكوا أدنى درجات الضمير، لن يفعلوا. على العكس لم ينتج الدكتاتور العراقي سوى الخراب. وحتى الحسنات التي حصلت كالبنى التحتية في الثمانينيات، ضيّعها بحماقات لا يرتكبها الا معتوه. ولو أردنا احصاء الهزائم والخراب، والتنازلات الكبيرة من أجل البقاء في الحكم، سنعرف، إن امتلكنا قليلا من الموضوعية، انه لا يستحق أي مديح.
لقد بدء الدكتاتور باتفاقية الجزائر سيئة الصيت، تضمنت هزيمة التنازل عن الضفة اليسرى من شط العرب لإيران. بعدها ما حصل في قاعة الخلد من مسرحية للخوف أعدم فيها الدكتاتور رفاقه بتهم ملفقة. وانقلابه على مواثيقه مع مكونات الجبهة الوطنية من الشيوعيين والكرد. ثم ملاحقة الشبان المتدينيين واعدامهم بتهمة حزب الدعوة. وحماقته الكبيرة في الحرب العراقية الايرانية التي سعى من خلالها بسط النفوذ على المناطق العربية هناك، لكنه وبعد مئات الوف القتلى من العراقيين، وتدمير البلاد، عاد الى ذات الحدود، ليحتفل بالنصر "الهزيمة". بعدها احتل دولة صغيرة لدواع "قومية" لتُفتح على البلاد بيبان جهنم، ويدمر الجيش العراقي ويرهق الشعب بالحصار. عمليات إبادة ومقابر جماعية. صدام هو من أتى بامريكا، أعطاها المبررات لتكون موجودة في الشرق الاوسط وأخيرا في العراق. ثم حملته الايمانية التي بث عبرها ثقافة دمرت ما تبقى من مدنية في الروح العراقية، وخلق تشويهات سنية وشيعية. ليختم عهده بإعادة احتلال العراق. وليتذكر عاشقو العنتريات، خيمة صفوان التي وقع ممثلو النظام فيها على كل ما طلب منهم لصالح قوّات التحالف وبلدان الخليج.
ذلك كله لن يقنع المدافعون والعاشقون. سيلجؤون للشعارات القومية والطائفية، ويتحدثون عن حامي البوابة الشرقية ضد الصفويين أو المجوس، وعنصر التوازن ضد الصهيونية. لكن النهايات تكشف عن بطلان الوهم. لقد فرق صدام الصف العربي مرارا. وبسبب ما جرى في الكويت وضع ياسر عرفات في زاوية، ليوقع على اتفاقيتي مدريد وأوسلو. اما ايران فهو الذي أضعف العراق أمامها، جعل البلاد منخورة من الداخل، دمرها بالحروب والقمع والسياسات الغبية خلال ربع قرن من حكمه، او اربعة عقود من حكم حزبه. وبذلك أًصبحت البلاد مؤهلة لأن تكون ضمن نفوذ أكبر جيرانه. ولم يخسر السنة التجربة في العراق الا على يد هذا الدكتاتور. أفشل مشروع الدولة التي بدأوا ببنائها عام 1921، ختمها بحماقات ضيّقت خياراتهم، ليجدوا التجربة قد انهارت.
وهناك ذريعة جديدة للعاشقين تقول "إن الذين جاؤوا بعده قد بيضوا وجهه". تناسى هؤلاء أن من يأتون مباشرة بعد نظام مظلم كالنظام السابق لا يمكن أن يكونوا ملائكة. لقد أفرغ البلاد من كل القوى المدنية، وجرّد الوطن من أي نجاعة لبناء واقع سياسي. ان دكتاتورا سفاحاً في أي بلد سيكون خصومه الأقوياء قوى بدائية، وهي دينية أو قبلية، لأنها الوحيدة القادرة على الصمود والاستمرار أمام حجم البطش. ومن الطبيعي أن تكون هي بديلا عنه والوارثة له، ممثلة وجهه الاخر. ذات المصير سيواجه أي بلد بهذا الشكل الاستبدادي يسقط نظامه. لكن ورغم كل هذا، لن يتعب العشاق لإيجاد البراهين على إشراقة معشوقهم.
واذا افترضنا جدلا امكانية فهم ميل بعض العراقيين للدكتاتور، لأنهم كانوا في رغيد العيش أو أنهم خسروا استقرارهم بفعل فوضى تفكك نظام ربط الدولة بفرد الحاكم... فلا يمكن تفهّم وتبرير تطبيل عشاق صدام من العرب، إذ لعبوا أقذر الادوار. حاكم لا يكلفهم شيئا، ويوفر لهم الشعور بـ"الأنا العربية" على جماجم وفقر وتدمير وتحقير وإذلال العراقيين. لا يهم، ليموت العراقيون، كي ترضى نزوة استعادة الامجاد المزعومة. تارة لإرضاء طائفيتهم، وأخرى لأن عنصريتهم القومية تطبل. هؤلاء أسوأ ما في الموضوع، لأنهم مجرد مطبلين على جراح الاخرين، فقدوا الاخلاق والانسانية. وجود هذه الجماعات سبب فيما وصل اليه العالم العربي. ولن يتحرر هذا العالم الا بسقوط هذه الثقافة الفاقدة للضمير والمنطق وأدنى درجات الاحساس بالاخرين.
في ذكرى حرب الخليج، لا يسع العراقي سوى أن يستيعد بألم وغصة كيف أُذل العراقيون، وكيف احترقت المدن، وتناثرت آلاف الجثث التي تركت للحيوانات، والحصار الذي أعاد بلدا وشعبا مهماً الى مرحلة بدائية. و قبل وبعد كل ذلك، لا يمكن نسيان من تسبب بهذا كله.&&

&