&

يقول البعض، إن أحمد عبد الهادي الجلبي هو من اقنع الامريكان بغزو العراق، ويؤمن الكثيرين بهذه المقولة، من المؤيدين والمعارضين له، المؤيدين الذين تركوه، وانظموا فيما بعد الى الأحزاب الدينية وما تمنحهه من الحصص والمواقع والمزايا، والمعارضين ممن يلعنوه ليل نهار باعتباره سبب ضياع الامتيازات التي فقدوها، والطرفان يبكين كما يقول المثل العراقي على الهريسة وليس على الحسين (العراق).

بالطبع في الاعتقاد أعلاه مبالغة كبيرة جدا، فدولة عظمى مثل الولايات المتحدة، لا يمكن ان يخدعها شخص ما او يورطها شخص ما في اتخاذ خطوات لا صغيرة ولا كبيرة كبر ما حدث في العراق، لان كل خطواتها تخضع للدراسات المتعددة واضعين نصب اعينهم تاثيرات الخطوة لسنوات طويلة وقدرة بلدهم لتحمل نتائج السلبية لحين قطف الإيجابية. فما قاله جورج بوش الابن هو قرار استراتيجي أي الفوضى الخلاقة، انه قرار استراتيجي للولايات المتحدة الامريكية وليس لجورج بوش، وقد تمكنت الولايات المتحدة الامريكية من سحب اقدام الدول الاوربية والاتحاد الروسي وحتى الصين واليابان نحو الانخراط فيه بصورة من الصور.&

الصحيح ان المرحوم احمد جلبي تمكن عراقيا من خلق مظلة واسعة لتأييد الخطوة، ضمت هذه المظلة أحزابا وتيارات مختلفة ومتعددة، وهذا انجاز كبير يحسب له وليس عليه، وهو انجاز كان من المستحيل عراقيا توفيره لولا قدراته وديناميكية الرجل. فالعراقيون، كانوا قد تعودوا على الانقسام الاميبي في كل ما يؤسسوه من المنظمات والمؤسسات، وجاء احمد الجلبي وجمع اغلب قواهم تحت مظلة المؤتمر الوطني العراقي. وهذه الخطوة كانت ضرورية للولايات المتحدة الامريكية، لانها منحت لها الشرعية والتفويض اللازمين لحرب تحرير العراق. التفويض كان شرعيا بقدر ما كان وجود نظام صدام شرعيا. فهذا النظام الذي جاء بانقرب عسكري، وحكم بالقوة وبقمع كل المعارضات، وادخل البلد في حربين مدمرتين، لم يكن يملك أي شرعية قانونية لحكم البلد أصلا. ومن هنا تساوت شرعيته مع شرعية المعارضة التي لم تكن قد اعتمدت على استفتاء العراقيين. ولكن ما غلب المعارضة على النظام هو تنوع اللون السياسي والقومي والطائفي للمعارضة مقابل، الأحادية السياسية للنظام.&

مع الأسف، ولكن قد تكون هذه هي الحقيقة، ان ما ورثه غالبية العراقيين من عادات وقيم وتقاليد، لا تسمح لهم بتكوين فكرة عن الوطن بمفهومه مجموعة من القيم والقوانين والمؤسسات والممتلكات التي يتشارك فيها الكل، والتي تخدم الكل، فمفهوم الوطن لدى البدو وثقافته هو موقع ومناظر، وهذا هو الطاغي على ثقافة العراقيين، ليس العرب فقط بل النظام العشائري وقيمه السائدة، هي التي تمنح وترسخ هذا المفهوم للوطن لدى الناس، ولعل ابراز ظواهر الفرهدة (من الفرهود) والتخريب المتعمد للمتلكات العامة، او سرقتها وبشكل علني وبدعوة انها مال الحكومة، يظهر مدى ضعف مفهوم الوطن لدى العراقيين. ولذا أيضا ليس هناك مفهوم الدفاع عن الممتلكات الجماعية حتى لدى قيادات الأحزاب الفاعلة. ورغم انين العراقيين وملايين اللاجئين سواء في ايران او في سوريا او الدول الغربية، لم يدفع ذلك الى تعاطف العراقيين الاخرين معهم، ولم يظهر وطنيا اطراف تدعوا الى حل لهذه المأساة. وعند سقوط النظام بواسطة الولايات المتحدة الامريكية وعودة الكثير من اللاجئين، كان موقف المتواجدين انهم غرباء او انهم إيرانيين او انهم من جاء بهم الاحتلال.

كان انين العراقيين من جراء تبعات الحروب المدمرة والدكتاتورية يرتقع عاليا، وكانت موجات الهجرة والهروب تزداد وتتفاقم، ولكن بمجرد سقوط صنم بغداد، تغييرت الأحوال، فالضحايا تحولوا الى جلادين، بدلا من ان يكونوا بلسما يعالج مخاوف مواطنيهم ممن ذاق اغلبهم ويلات الحروب. وبمجرد رخو يد الأجهزة القمعية، حتى تحولت العراق الى مكان مفتوح للنهب والسرقة، لا بل ان أجهزة النظام السابق تحولت الى تخريب وسرقة ممتلكات الدولة ومن ثم الى الاقتصاص من الناس وفرض الخوات والاتاوات عليهم.

والانكى من كل ذلك، والعراق بالكاد كان قد تخلص من النظام، الا ونرى مجاميع مسلحة تدعوا لمحاربة الامريكان، في موقف واضح يظهر نكران الجميل بابشع صوره، وكان إرادة المواطن في حكم بلده كانت متجلية في حكم صدام حسين، الا انه مرة اخرى الفهم العشائري البدوي للوطن والمواطن، والذي يقصر مفهوم الوطن على موقع ليس الا.

وفي ظل مثل هذا الواقع كان التيار المدني يخسر أنصاره امام مد التيار الديني المخون للاخر، سواء كان التيار سنيا او شيعيا، وكل منهما استمد قوته من الجوار، لقد كانت الحرب التي اوقفتها السعودية عام 1991 حينما ارتضت، بقاء صدام ملجوم على الانيان بالاسلاميين الشيعة التي لا يعرف نواياهم. خلال اكثر من عقد لم يتعلم العراقيين من ما سبق، بل عادوا ليكونوا وقودا لهذا الطرف او ذاك. وكل يريد الانتقام من غريمة العراقي الاخر وان كان بسلاح اجنبيّ!

التيار المدني صار مضطرا للاحتماء بالتيار الديني الجارف لكي يبقى، وهذا كان مثال احمد الجلبي، الرجل الذي أراد التخلص وتخليص العراقيين من نظام صدام، لينتهي اسيرا لنظام اخر يكاد ان يكون اسواء من نظام صدام، بفرزه العراقيين الى انتماءات وحسب تلك الانتماءات تكون الحقوق.

من أخطاء الجلبي باعتقادي هي محاولته الحثيثة للثأر من البعث والبعثيين، ولكن بصورة غير مدروسة وبدون أي مساومات، في الوقت الذي كان البعث وبرغم سقوطه كنظام الا انه كتنظيم قمعي كان لا يزال قائما، من خلال دخول أنصاره التنظيمات الدينية المختلفة ومحاولة توجيهها بما يخدم اجندتهم الخاصة، وفي الغالب التي كانت تتعلق بمخاوفهم من الانتقام لماضيهم. هذه المخاوف التي لم يتمكن الجلبي من فهمها ولم يعطيها حقها، ولعل خلو مفهوم التسامح والمساومة من سجل السياسيين العراقيين هو احد أسباب ما لا يزال مستمرا لحد الان.

رحل الجلبي ولكن يحق لنا ان نتساءل هل رحل معه حلم إقامة الدولة المدنية العراقية؟