يمتاز الوعي العراقي بنزعته الاستبدادية ورغبته في التسلط على الآخرين، وهو في كل مرة ومرحلة من مراحل التاريخ يجد لنفسه حجة وتخريجة جديدة ليبرر بها هذا الإستبداد، ويحاول شرعنته بإستغلال مبدأ ومصطلح الأكثرية كالحرباء، سواء في زمن الانظمة الشمولية أو الديمقراطية، مرة بأسم الأكثرية القومية بحجة أن غالبية سكان العراق عرب لذا هم أصحاب الحق بحكمه وجعله دولة عربية لا بل ورمزاً للعروبة وبوابتها الشرقية! ومرة بإسم الأكثرية الدينية بحجة أن غالبية سكان العراق مسلمين لذا هم أصحاب الحق بحكمه وجعله دولة إسلامية لا بل ومركزاً للإسلام ورمز علمه عبارة الله أكبر! واليوم وأخيراً وربما ليس آخراً باسم الطائفة بحجة أن غالبية سكان العراق شيعة لذا هم أصحاب الحق بحكمه وجعله دولة ذات طابع وملامح شيعية صرفة لا بل وقبلة للتشيع وساحة وميداناً لشعائره وطقوسه!

وإذا كان دستور النظام الملكي قد حاول معالجة هذه النزعة والتعامل معها بحكمة لعلمه بخطورتها على مستقبل العراق قبل قرن من الزمن ونص بأن العراق وشعبه بمختلف طوائفه وقومياته أمة واحدة، مكتفياً بالإشارة الى أن العربية والإسلام هما لغة الدولة ودينها الرسميين، مع ضمان حقوق القوميات والطوائف الاخرى بتعليم عقائدها ولغاتها دون الجَزم بعربية العراق وإسلاميته، فإن النظم الجمهورية قد تخبطت في التعامل مع هذا الأمر تبعاً لطبيعة النزعة التسلطية النزقة لدكتاتورييها وتماشياً مع إتجاه الهوى الإستبدادي لوعي الشارع العراقي الجمعي، فدستور قاسم المؤقت مثلاً أقر بأن"العراق جزء من الأمة العربية" وبأنه "شراكة بين العرب والأكراد" أما باقي القوميات فلهُم الله! ثم جاء عارف والقوميون ليزيدوا الطين بلة بأن أقروا أن "الجمهورية العراقية تستمد أسسها من التراث العربي والدين الإسلامي" وبأن "الشعب العراقي جزء من الأمة العربية هدفه الوحدة العربية وتلتزم الحكومة بالعمل على تحقيقها بأقرب وقت ممكن مبتدأة بالوحدة مع الجمهورية العربية المتحدة" أما باقي الأديان والقوميات فلهُم الله! ثم جاء البعثيون ليُعدلوا عليه قليلاً بإضافة بنود تتلائم مع إتفاقية آذار التي لم ترى النور ولم تطبق مع الأكراد، وأخيراً وليس آخراً جاء الأسلاميون مطلع القرن الواحد والعشرين ليعودوا بالعراق ودساتيره وقوانينه قروناً الى الوراء ويُثبّتوا في الدستور العراقي أن "الإسلام دين الدولة الرسمي ومصدر أساس للتشريع" وبأنه "لا يجوز أن يُسَن قانون يتعارض مع ثوابت أحكام الإسلام " وأن"هذا الدستور يضمن الحفاظ على الهوية الإسلامية لغالبية الشعب العراقي" مع إضافات شكلية ترقيعية تخص الأديان والطوائف الأخرى لم تلامس الواقع لأن أتباعها أخذوا ينقرضون من العراق نتيجة لمخطط تصفية وتهجير منظم يمارس بحقهم منذ سنوات.

لهذا سَبَق وكتبت مقالاً قبل سنوات عنونته وإقترحت فيه "لنختار مسيحياً وإيزيدياً وصابئياً لرئاسة وزراء وجمهورية وبرلمان العراق" بهدف كسر نزعة الشعور بالغرور والتفوق على الآخرين لدى الفرد العراقي بأشكاله الإستبدادية الثلاثة البارزة، الإسلامي أولاً، والعربي والكردي والتركماني ثانياً، والشيعي والسني ثالثاً، التي يجب أن تتعلم بأنها ليست بأفضل من غيرها من سكان العراق الأصليين الذين باتوا اليوم أقلية فيما باتت هي أكثرية تتسَيّدهم بالعدد، لأن الغالبية منها، التي لم تطالها رياح التمدن والتحضر، بقيت تفكر بعقلية الصحاري والأرياف والبوادي والجبال التي جاءت منها الى سهول العراق ومدنه قبل مئات السنين، وتعوّدت أن تُنجب 10 أولاد! فيما هم بقوا يفكرون بعقلية المدن التي أنشأوها والحضارة التي أسّسوها في العراق موطن آبائهم وأجدادهم قبل آلاف السنين، وتعودوا أن يُنجبوا 2 أو 3 وعلى أكثرتقدير 4!

&