&
إذا كانت جنوب افريقيا استطاعت في تسعينيات القرن الماضي ان تحقق مصالحة وطنية تجاوزت فيها (الابارتيد) من خلال اعتماد مبدأي (الاعتراف بالذنب) و (عفا الله عما سلف)، فان بروز الرقم الرابع في المعادلة العراقية الصعبة، ربما يقود لتحقيق تسوية تاريخية بين مكونات الشعب العراقي من (الشيعة والسُنّة) عبر رسم خارطة طريق تقود الى انتاج الدولة العراقية على اساس وطني.
وكانت شخصيات سياسية واكاديمية عراقية مستقلة أطلقت قبل يومين مبادرة (موطني) التي تقدم مرجعية سياسية لتيار الاعتدال وتمهد لقيام دولة مدنية قائمة على سيادة القانون والمواطنة.
ويُمكن للمبادرة الاستفادة من (وثيقة بغداد) التي انجزتها لجنة متابعة المصالحة الوطنية التابعة لمجلس الوزراء العراقي، كاطار لتحقيق (تسوية تاريخية) لدفع النخب السياسية لتحقيق المصالحة الوطنية. وتعتمد الوثيقة المراد تنفيذها فهماً آخر لمشروع المصالحة، فالوثيقة تُعرّف المصالحة بـتسوية تاريخية بين القوى الفاعلة في المجتمع العراقي على تنوعه لتحقيق مصالحة وطنية شاملة تضع إطار عقدٍ سياسي للثابت والمتحرك من المبادئ والأسس والحلول والإلتزامات المتبادلة بين أطراف الأزمة وضمن سقوف زمنية محددة تلتزم بها أطراف التسوية. ومن أهم أسسها لضمان مصالحة حقيقية راسخة ومورد قبول الجميعٍ: التسوية الشاملة وليس التنازل أحادي الجانب، ومبدأ لاغالب ولامغلوب، والأمن الشامل مقابل المشاركة الشاملة، تصفير الأزمات بين القوى المتفاوضة، والتنازلات المؤلمة من جميع الأطراف، وسلمية الصراع بما يضمن اسقاط العنف كورقة ضاغطة لتحقيق التسويات السياسية.&
ويرفض القائمون على (وثيقة بغداد)، اية تدخلات اقليمية على غرار (اتفاق الطائف) الذي أنهى الحرب الاهلية اللبنانية، وانما يسعون الى تحقيق هذه التسوية عراقياً وبمساعدة دولية من جانب منظمات الامم المتحدة لاسيما مكتبها في العراق، وهو امر يُمكن تسميته اصطلاحاً بـ (الطائف العراقي). ويبررون ذلك بان 60 بالمائة من مشاكل وأزمات العراق الحالية ناجمة من التدخلات الاقليمية والدولية. ويقولون ان على المعارضين التفاوض مع الحكومة العراقية حصراً وبشكل مباشر، كونها من تملك قوة السلطة وقوة اتخاذ القرار.&
وبالرغم من اعتراف القائمين على بلورة مشروع وثيقة بغداد، ان النخب التأسيسية العراقية، وفي لحظاتها المفصلية الثلاث: 1921- 1958- 2003، لم تكن على مستوى مهمة بناء الدولة الوطنية، وانها كانت نخب تمييزية واستبدادية مغامرة، غامرت بمشروع الدولة العراقية التي كان يفترض أن تُبنى على اساس الدولة المدنية، إلا انهم يعترفون أيضاً بعدم وجود كتلة تاريخية في أي من اللحظات الفارقة الثلاث، ما جعل مشروع الدولة العراقية غير واضح المعالم بسبب الصراع على شكل الدولة وهويتها.
بيد ان القائمين على مشروع التسوية التاريخية، تجاهلوا حقيقة ان احتلال العراق عام 2003، وتدمير مؤسسات الدولة العراقية التي تشكلت على مدى ثمانين عاما، بسبب الطبيعة الثأرية والانتقامية لنخب الاسلام السياسي، أدت الى نتائج كارثية، بسبب التنوع الطائفي والقومي في العراق، لاسيما ان احدى أهم ميزات النظام الحاكم في العراق حالياً انه اكثر الأنظمة العراقية تمييزياً واقصائياً منذ عام 1921 وحتى الان.
واذ يقف العراق اليوم أمام منعطف خطير، بسبب الحرب على ما يسمى بتنظيم الدولة الاسلامية (داعش)، والتنامي المفرط لنفوذ الميليشيات الشيعية المنضوية في اطار الحشد الشعبي، ليس امام العراقيين سوى خيارين لاثالث لهما، اذا ما تجاوزنا خطة نائب الرئيس الأميركي جو بايدن لتقسيم العراق، وهي خطة غير قابلة للتحقيق ولم يحن أوانها بعد، بل ان المجتمع الدولي لن يسمح بها، نظراً لإن العراق يجاور ثلاث أمم: العربية والايرانية والتركية. فالتقسيم الناجز يعني جر هذه الأمم الثلاث نحو التقسيم بسبب التداخل الجيوديموغرافي مع العراق، والعالم غير مستعد لهضم هكذا تحول بنيوي في منطقة هي قلب العالم.
اذن أمام العراقيين خيارين فقط... أولهما: (وضع اللادولة).. بمعنى تأبيد اللحظة الراهنة التي يعيشها العراق من عدم الاستقرار وغياب السلم الأهلي وشيوع الارهاب والجريمة وتفشي الفساد وانعدام الخدمات وارتفاع نسب البطالة وغياب الاستثمارات وفرص العمل. اما الخيار الثاني فهو: الاتفاق على اطر للتعايش السلمي من خلال تسوية تاريخية تضمن انهاء التضاد العراقي – العراقي، وفقاً لمبدأ (لا غالب ولا مغلوب) وقبول جميع الاطراف بتقديم (تنازلات مؤلمة). وبغير تحقيق هذه التسوية فإن العراق مهدد بأن يصبح تحت الوصاية الدولية مجدداً، نظراً لخطورة الاوضاع السياسية والأمنية والاجتماعية، لاسيما مع وجود تنظيم داعش وسيطرته على مساحات واسعة من العراق والصراع الجيوطائفي، ذلك ان التنوع السكاني في العراق، يؤثر في بعده الجيوسياسي على الاقليم المحيط به.&
ويأمل القائمون على مشروع (المصالحة الوطنية) وفقاً لبنود مسودة (وثيقة بغداد) ان يتمكنوا من تحويل الأغلبية اليائسة الى قوة سياسية حاضنة ودافعة لمشروع بناء الدولة المدنية الحديثة ولمسودة الوثيقة من اجل انهاء الخلاف السُنيّ – الشيعي والخلاف الكردي – العربي.
وازاء انعدام الثقة بين الشيعة والسُنّة في العراق، لاسيما ما يتعلق بقيام احزاب الاسلام السياسي الشيعي بتفتيت وشرذمة البيت السُنيّ الى كيانات صغيرة والتعامل مع اكثرها ضعفاً، وهو ما انتهجه المالكي خلال سنوات حكمه الثمانية المنصرمة، يطالب العرب السُنّة بضامن للالتزامات المتبادلة التي سيتم الاتفاق عليها.
بعد كل ماتقدم، ما المطلوب اذن لتحقيق (الطائف العراقي)؟..
أن تسمح الحكومة العراقية بعقد مؤتمر القيادات السُنيّة الذي يسعى له الدكتور سليم الجبوري والدكتور محمود المشهداني والفصائل السُنيّة الاخرى، لاتخاذ موقف موحد من وثيقة بغداد، او التوصل الى مبادرة مقبولة للتفاوض مع الحكومة، وان لاتشترط عقده في بغداد فذلك أمر تعجيزي بسبب الملفات القضائية التي لم تحسم بعد ضد رموز سنية مهمة.
ان عقد (طائف عراقي) أمر مهم لتحقيق السلم الأهلي أو التسوية التاريخية، لكن الحاجة الى دولة راعية قوية متفاهمة مع دول الإقليم وغير منحازة لاي من الاطراف المتفاوضة، وتحظى بقبول العرب السُنّة وقوى التحالف الوطني، مازال قائماً، يساعدها خبراء دوليون مختصون في التفاوض الدولي والاقليمي. وهنا يبرز دور بعثة (يونامي) في العراق والسفارة الاميركية والاتحاد الاوربي في تعزيز هذا الجانب، لاسيما وان مبعوث الامم المتحدة في العراق لعب دوراً محورياً في التمهيد للاتصالات السُنيّة - الشيعية في عمان واسطنبول وبغداد.
وهنا يبرز سؤال آخر ماذا لو أصرت الحكومة العراقية على ان يكون الطائف العراقي المرتقب تحت رعايتها؟... واقول يُمكن للحكومة العراقية ان ترعى المؤتمر بحيادية مقبولة، اذا ما دخل المرجع الشيعي الأعلى السيد السيستاني على الخط، وانحاز الى جانب العرب السُنّة، لاسيما وهو القائل (السُنّة أنفسنا)، كما فعل بشأن الولاية الثالثة للمالكي.&
وعندها يمكن للمفاوض الماهر ان يجمع بين المصالح والتنازلات المؤلمة لتثبيت الالتزمات المتبادلة من خلال الاستعانة بخبراء دوليين مختصين بهذا النوع من المفاوضات والتسويات لادامة الحوار وايقاف ان نوع من العمليات العسكرية بعد طرد عناصر داعش من المناطق المحتلة والبدء بعملية كبرى لانقاذ العراق والحفاظ على هويته كدولة مدنية تحترم التنوع الديني والقومي.
&
&كاتبة عراقية
التعليقات