من مفكرة سفير عربي في اليابان

عرضنا في الجزء الأول بعض تعليقات القراء الأعزاء، وطرحنا في نهاية المقال الأسئلة التالية: هل القيم البشرية هي نتيجة تجارب إنسانية متراكمة على مدى ألفيات طويلة، أم هي من حق أمة ما، لتدعي بأنها هي التي تعرف الحق، وتملك الحق، وأن هذا الحق هو الذي سينقذ البشرية من الضلال؟ ألم يتطور المخ البشري خلال الخمسمائة مليون سنة الماضية من عقل بدائي غريزي، إلى عقل أنساني تعاطفي، ومن ثم إلى عقل تفكير منطقي؟ ألم تتطور الحضارة البشرية بعد معاناة طويلة من الظلم والعنف والقتل؟ كيف بنيت الأهرام في زمن لم يكن فيه تكنولوجية الرافعات والمواصلات؟ ألم يمثل العبيد 90% من شعب روما؟ ألم تتطور التجربة الإنسانية تدريجيا، لتجمع بين حضارات عديدة، ورسالات متنوعة، واديان مختلفة؟ ألم يخلق الخالق، جلت عظمته، الشعوب متباينة ومتنوعة، لتتعرف على بعضها البعض، وتتعايش مع بعضها البعض، بود، وتالف، وتناغم، وتجانس، وسلام، لتزدهر على كرتنا الأرضية بلدان امنة، لتسعد فيها البشر وتتكاثر؟ ألم تنبثق الأديان من حاجة الإنسان لفهم سبب وجوده، ليرتبط ذلك بقيم إنسانية جميلة؟ ألم تمر المجتمعات البشرية بمرحلة ما قبل العصر الحجري، والتي تميزت بمهارة الصيد، للعصر الزراعي الذي تميز بفائض الموارد الغذائية، وخلق رأسمال، وبدأ ارستقراطية النخبة؟ ألم تلعب هذه النخبة دورها في تطور العلوم والفنون والتكنولوجية الصناعية؟ وأين كان موقع رجال الدين في تطور مفهوم النخبة والدولة الحديثة؟ وهل فعلا سبب التطرف والحروب هو الدين؟ هل كانت الحربين العالميتين والحرب الباردة حروب دينية أم علمانية؟ وهل فعلا الدين هو السبب في التطرف والإرهاب والحروب التي نعيشها اليوم؟ وهل من المهم فهم دور الدين بدقة في الضمير الانساني في عالم العولمة الجديد؟&
لمحاولة مناقشة هذه الأسئلة، ليسمح لي القارئ العزيز أن نتصفح كتاب جديد بعنوان، حقول الدم - الدين وتاريخ العنف، للمؤرخة البريطانية& كارن ارمسترونج. تبدأ الكاتبة نقاشها بمقدمة تقول فيها: "كل عام في اسرائيل القديمة، يأتي القسيس بمعزتين، لمعبد القدس، في يوم الكفارة، ويضحي بواحدة، ليكفر بذلك عن ذنوب المجتمع، وبعدها يضع يده على الثانية، لينقل جميع آثام البشر لرأس الماعز، ويرسل بعد ذلك الحيوان الاثيم لخارج المدينة، وبعبارة أخري ينقل اللوم لمكان اخر، وبهذه الطريقة يبين النبي موسى (عليه السلام) بأن العنزة ستتحمل جميع اثامهم لتنقلها للصحراء." لقد ناقش رينيه جرارد، في دراسته التقليدية عن الدين والعنف، بأن طقوس كبش الفداء، تنزع فتيل التنافس بين فئات المجتمع الواحد. ولذلك اعتقد بأنه، وبنفس الطريقة، عملت المجتمعات الحديثة كبش فداء من المعتقدات. ففي الغرب هناك تصور بأن الدين عنف وراثي، وهو جلي بالأحداث التي نعيشها اليوم. بل يكرر الجميع بأن الدين كان سبب كل الحروب العظمى في التاريخ، ولكن من الواضح بأن الدين لم يكن سبب الحربين العالميتين الاخيرتين. ويناقش مؤرخو الحروب بأن اسباب الحروب في التاريخ متداخلة وكثيرة، منها الاجتماعية والعقائدية، وأحيانا بسبب الموارد الطبيعية، وخاصة التنافس على الموارد النادرة. ويؤكد خبراء الارهاب بأن سبب العنف عوامل معقدة، ومع ذلك نصر بالربط، في ضميرنا العلماني، كل اسباب العنف في القرن الحادي والعشرين بالدين، ولنرميه في بر السياسة. كما يعتقد البعض بان الاديان السماويه لا تتحمل الخلاف، وخاصة حينما يعتقد البعض بان الخالق (جلت عظمته) فقط معهم، وبذلك من المستحيل إنهاء الخلاف بحلول وسطية.
وتستمر المؤرخة في نقاشها بالقول: "مع أن موضوع فصل الدين عن السياسة يبدو موضوع طبيعي اليوم في دول الغرب، لذلك يصعب علينا فهم مدى تداخل الدين في السياسة في الأزمنة القديمة، ولم يكن السؤال ببساطة استخدام الدولة للدين، بل كان الاثنان متداخلين، لا يمكن فصل أحدهما عن الاخر. ففي عالم ما قبل الحداثة، تداخل الدين في مختلف مظاهر الحياة. ففي قديم الزمان كان من المستحيل معرفة أين ينتهي الدين وأين تبدأ السياسة. وذلك ليس لأن الأقدمين كانوا اغبياء، بل لأنهم كانوا يريدون ربط كل ما يقومون به بأقصى القيم الإنسانية، لان من طبيعة الإنسان أن يضيع في هذا العالم، حينما لا يستطيع أن يتفهم معني حياته ووجوده. بل حتى حينما لا يستطيع ادراكهما في المسجد أو الكنيسة، يتوجهه للفن والموسيقى، أو الادمان والجنس، أو للحروب المدمرة."
وتبين الأبحاث العلمية بأن كل منا يملك ثلاثة عقول. ففي عمق المخ البشري لدينا العقل القديم، الذي ورثناه من الزواحف قبل حوالي 500 مليون سنة، والمتواصل مع غريزة حبنا في البقاء، والمرتبط بالأكل، والشرب، والتكاثر، والدفاع عن النفس، ونزاعات الحروب. بينما ورثنا بعد ذلك عقلنا الثاني من الثدييات، قبل حوالي 120 مليون سنة، بتطور ما سمي بالعقل "اللمبي"، والذي أدى لتطور سلوكيات الشفقة والرحمة في عقلنا البشري، كحماية الصغار، وتناغم العمل مع الاخرين، لتحقيق حب البقاء، ولتبدأ بذلك مرحلة جديدة في رعاية الأنسان لأفراد مجتمعه، ولتتطور غريزة التعاطف، والتراحم، والتالف، مع الاخرين. ومع الوقت تطور العقل الثالث في العنصر البشري، فقبل حوالي عشرين الف سنة، وفي فترة العصر الحجري القديم، تطور العقل البشري بصفات جديدة، بعقل المنطق والتفكير، لننتقل من عقل الرغبة والعواطف، نحو عقل المنطق، والمسببات، والتفكير العميق، والحكمة. فليتحول الانسان مع الوقت لما هو اليوم بثلاثة عقول، عقل حب البقاء، وعقل المودة والتعاطف، وعقل التفكير والمنطق.
وتبين كتب التاريخ بأن الانسان كان في العصر الحجري القديم ماهر في القتل، يقتل الحيوانات بالصيد ليضمن غذائه ويحافظ على بقائه. ولكن مع الوقت صعبت غريزة الشفقة والتعاطف هذه المهمة، لذلك ادخل الإنسان في طقوس التطهير والأضحية. كما تغيرت حياة الانسان مع انتقاله من عصر الصيد إلى عصر الزراعة، فقد كان الإنسان يزرع لكي يوفر غذائه، ولكن حينما تطورت وسائل الزراعة، وزادت المحاصيل الزراعية عن حاجته، تحول الفائض لرأسمال يتاجر به، ويستغله ويحتكره لزيادة ربحيته، وموقعه في المجتمع. فمع بداء التطور الزراعي، قبل حوالي العشرة آلاف سنة، بدأت النزعات على الاراضي، ووضعت الضرائب على محاصيل الفلاحين، ليؤدي ذلك لظهور طبقية المجتمع البشري.
فلقد كانت المجتمعات ما قبل العصر& الحجري مجتمعات متساوية، لأن الصيادين لم يستطيعوا توفير دعم لمن لم يشاركهم في صعوبة حياة الصيد، كما لم تكن لديهم زيادة في جمع موارد الغذاء، لكي تتحول لرأسمال، يستغل& ويحتكر ضد الاخرين. فلم تستطع القبائل البقاء ان لم تتشارك معا في عملية الصيد، ونتائجه، لذلك لم يكن في ذلك الوقت من الممكن خلق السلطة والدولة، لان الجميع كان لديهم نفس ادوات ومهارات الصيد. لذلك كان المجتمع مجتمعا لا طبقيا، وكان الناس يقدرون مهاراتهم في الكرم والشفقة والعطف، والذي كان يفيد المجتمع ككل. ولكن حينما بدأت المجتمعات الزراعية تنتج& اكثر من ما تحتاج إليه، تمكنت فئات صغيرة استغلال الفائض لتثري، وتستغل السلطة، وتحتكر العنف، للسيطرة على باقي المواطنين. وقد كان ذلك واضحا قديما في المجتمعات الزراعية في امبراطوريات الشرق الاوسط، والصين، والهند، واوروبا، التي اعتمدت على الزراعة، لتسرق القلة من النخبة المجموعات التي زرعت، لتحتكر السلطة، لتدعم حياتها الارستقراطية.
كما علينا أيضا أن نتذكر بان هذه الطبقة من قلة النخبة استطاعت أن تطور الفنون والعلوم، مما أدى لتقدم البشرية نحو مراحل جديدة من التطور الصناعي ولتكنولوجي. وقد كان كل ذلك التطور من ثراء النخبة مرتبط بالتطور الديني، الذي تداخل في جميع النشاطات البشرية، من خلق الطبقة الارستقراطية، وحتى بناء الدول الحديثة، وتشكيل الحكومات المستقرة، مع خلق شعوب مستقرة أمنة. فلقد كانت سياسات ما قبل الحداثة غير منفصلة عن الدين، فحينما كانت تختار النخبة تقاليد اخلاقية، مثل البوذية او المسيحية او الاسلام، يقوم& رجال الدين الارستقراط بالعمل على تالف ايديولوجياتهم، لكي يدعموا تركيبة العنف، لبقاء سلطة الدولة.& كما كانت الحروب مهمة للدولة الزراعية، والتي اسست بالقوة، واستمرت بوجود قوة العنف العسكري. فحينما كانت الارض والفلاحين الذين زرعوها هم السبب الرئيسي للثراء، كانت السيطرة على اراضي الاخرين الطريقة الوحيدة لزيادة الممالك دخلها، لذلك لم يمكن الاستغناء عن الحروب، لدعم اقتصاد ما قبل الحداثة. وكان على الطبقة الحاكمة ان تبقي سيطرتها على قرى الفلاحين، وتدافع عن اراضيها الزراعية ضد الغزاة، مع السيطرة على اراضي جديدة، والقضاء على اية مقاومة ضد ذلك، لذلك كانت القوة العسكرية الوسيلة الوحيدة لحفظ الامن والسلام في البلاد.
وتستمر الكاتبة في نقاشها بالقول: "وقد ترافق بروز الدول والامبراطوريات بنمو القوة العسكرية، والتي اعتبرها المؤرخين أحد المعالم الحضارية. كما يعتقد المؤرخون بأنه، بدون القوة العسكرية المطيعة والمنضبطة، لبقت البشرية في مستواها البدائي، بل قد تفتت واندثرت لأجزاء متحاربة. وبسبب غريزتنا البشرية المتداخلة بين العنف والشفقة، ستبقى مشكلة السلام والعنف بين البشر والدول بدون حلول. ولما كانت جميع ايديولوجيات زمن ما قبل الحداثة مرتبطة بالدين، لذلك كانت الحروب مقدسة. وفعلا جميع التقاليد والعقائد الدينية الكبيرة ارتبطت بهوية سياسية، برزت من خلالها، ولم تستطع أي منها ان تكون ديانة عالمية، لولا رعاية امبراطورية عسكرية قوية لها، ولذلك كان على كل منها ان تتطور ايديولوجية امبريالية."
ولكن يبقى السؤال: لأي درجة لعبت الأديان دورا في عنف الدولة والتي ارتبطت بها؟ وكم من اللوم الذي يجب ان يوجهه لتاريخ العنف البشري مرتبط بالدين؟ وتعلق كارن ارمسترونج على ذلك بقولها: "المشكلة بأن الجواب ليس سهلا. فعالمنا متعدد الأقطاب، في& زمن زاد التداخل البشري سياسيا واجتماعيا واقتصاديا وتكنولوجيا، ولكي نستطيع ان نتعامل مع تحديات العولمة، لنخلق مجتمع عولمة متناغم، نعيش فيه بسلام واحترام، علينا تقيم اوضاعنا بدقة، ولذلك لا نستطيع ان نبسط طبيعة الدين ودوره في العالم. ومع أن ما سماه& العالم الامريكي، وليم كافانوف، اسطورة العنف الديني، خدم العالم الغربي في الفترة المبكرة من الحداثة، ولكن في عالم قرية العولمة الصغيرة اليوم، نحتاج لوجهة نظر دقيقة لكي نستطيع فهم مأزقنا، في ما سمي بالإرهاب الديني، الذي نعاني منه اليوم بشكل كامل."
كما ركزت الكاتبة على دراسة التقاليد الابراهيمية لليهودية والمسيحية والإسلام، والتي هي تحت المجهر اليوم، وخاصة الاعتقاد السائد بان الاديان السماوية سبب للعنف، وعدم تحمل الخلاف، لتجد بان القوة العسكرية والايديولوجية المشبعة بالقداسة كانت مهمة للدولة، ولكن منذ القدم كانت هناك اناس مرهقين من ضرورة العنف، بل اقترحوا طريق الدين لمعالجة سلوكيات العنف، وتوجيهها& نحو التعاطف والشفقة. كما حاولت الكاتبة بحث بعض انواع العنف الديني، من خلال دراسة القضايا البارزة في الديانة& الابراهيمية كحرب جوشوا المقدسة، وأعلان الجهاد، والحروب الصليبية، ومحاكم التفتيش والحروب الصليبية، والحروب الاوربية الدينية.
وتنهي المؤرخة ارمسترونج مقدمة كتابها بالقول: "حينما تدخل رجال ما قبل الحداثة في السياسة، حاربوا على اسس دينية، وتداخلت معتقداتهم في صراعهم، بشكل يبدو لنا غريب اليوم. كما كان في التاريخ الديني الصراع نحو السلام مهم، كما كانت الحروب المقدسة.& فقد اكتشف المتدينين طرق عبقرية كثيرة للتعامل مع عقل الزواحف الغريزي للبشر، للحد من العنف، وبناء مجتمعات مسالمة وبناءة ومحترمه. ومع ذلك لم يستطيعوا المتدينين تغير مجتمعاتهم جذريا، بل ما حققوه هو توضيح طرق اخرى، اكثر تعاطفا ورحمة للبشر، للعيش معا في حياة رغيدة امنة.& وحينما نتحدث عن التاريخ الحديث سنتذكر التطرف والإرهاب الديني منذ الثمانينيات، وحتى احداث الحادي عشر من سبتمبر عام 2001، كما سنجد بان العلمانية لم تعوض عن العقيدة الدينية، والتي كانت السبب في حربين عالميتين مدمرتين، والتي لم تستبدل عن الدين، بل خلقت زيادة التعاطف مع الدين، ولم تكن العلمانية نهاية المطاف، بل حاولت في بعض المجتمعات شق طريقها نحو الحداثة، ولكن انتهت بإتلاف الدين، وجرح نفسية البشر، حيث لم يكونوا مستعدين للتحول، حينما كان الدين جزءا من وجودهم، وحياتهم، وأخلاقيات سلوكهم. وبينما كان يلعق كبش الفداء جروحه في الصحراء،&& مع استيائاته المتقيحة، رجع للمدينة ليقودها للخارج." ولنا لقاء

د. خليل حسن، سفير مملكة البحرين في اليابان