في منتصف شهر ديسمبر من العام الماضي 2014 بدعوة من منظمة اليونسكو إلتقى في بيروت 45 خبير دولي من خبراء وزارات التربية والتعليم، المؤسسات الأكاديمية، الهيئات الدولية، المنظّمات غير الحكومية والوكالات المتخصّصة في العالم العربي للمشاركة في ورشة العمل الإقليمية الثالثة حول "تطوير سياسات وممارسات المعلّمين في العالم العربي". لعرض أفكارهم والنتائج التي كانوا قد توصّلوا إليها بمشاركة خبراء من دول أميركا اللاتينية وأفريقيا للاستفادة من عملية تطوير هذا النوع من الوثائق، وإعطاء الفرصة لزملائهم من الدول العربية للاطلاع على تجارب دولية مماثلة والتعرّف على عوائق وتحدّيات واجهت نظرائهم في مناطق أخرى خلال تطويرهم لسياسات تنظيمية عامّة للمعلّمين، بغية تبادل الآراء ووجهات النظر للوصول إلى ما يجدي نفعاً للعملية التربوية على أحسن وجه.
شملت نقاشات اللقاء التربوي حول أبرز التطوّرات، والتحدّيات والسياسات المعمول بها، بالإضافة إلى الخطوات العملية التي يجب القيام بها بهدف خلق بيئة وظيفية مناسبة لإحراز التقدّم النوعي في التعليم في العالم العربي.
من المألوف والمتعارف عليه إن الإقدام على عقد لقاءات بهذا الشكل والمحتوى تحت شعار تطوير العمل التربوي والتعليمي، ينبغي عادة ان تشمل المسببات التي تكون عائقاً لذلك التطوير، وليس حصراً على عنصر واحد من العناصر المتمثلة فقط بالمرسل اي المعلم. لكون المعلم مهما كانت درجة ممارساته التعليمية والتحصيل العلمي المقتنى والشخصية التي يتمتع بها في المجهود الذي يبذله ـ وهي من واجبه ـ عليه أن لا تتغافل تلك المؤتمرات عن الجوانب السلبية المتمثلة في المتلقي والمقصود بها التلاميذ في كافة مراحلهم التعليمية والدراسية، إضافة لوسيلة الإرسال المتمثلة بالمناهج وغيرها من العوامل السلبية.
كما لا يخفى على أحد بان المعلم مهما كانت صفات شخصيته، فأنه يحمل ذلك الإسم الذي يؤهله على إداء وظيفته وفق تأهيله العلمي والتربوي، حاله حال الطبيب الذي يقوم بواجبه لمعالجة مرضاه، وعادة ما تتفاوت الكفاءة المقدرية بين شخص وآخر. منهم من يبقى على ما تسلح& به أيام دراسته في تحصيله العلمي، ومنهم من يسعى لتطوير معلوماته وفق ما يستحدث من أمور. ومنهم من يؤدي واجبه وفق ما تملي عليه القوانين الوزارية للتربية والتعليم. لهذا فإن ما يمليه المعلم على تلامذته تتفاوت على ضوء ما يتصف بها من إمكانات وخططه المنهجية المبنية على خبراته، والسنوات التي قضى فيها مهنة التعليم والدورات التربوية التطويرية التي يقدم على المشاركة فيها للتعرف على أحدث الطرق والأساليب المستحدثة لتطبيقها.
تساؤلنا هنا هل يتمتع كافة المعلمين بتلك الصفات الإيجابية لتحقيق ما يصبون اليه؟ لا أظن ذلك بتاتاً، طالما الوضع الإجتماعي والإقتصادي والنفسي لها تأثيراتها المباشرة على حياته، حسب ما أثبتته العديد من الدراسات والبحوث الميدانية في البلاد العربية. فإن توسعنا أكثر وقارنا ذلك بمعلمي الدول من الذين يمارسون ذات المهنة في البلدان الأجنبية لأبناء المهاجرين من البلدان العربية البالغ عددهم بالملايين والراغبين في تعلم اللغة الأم، لإكتشفنا بأن الحالة هي أسوأ مما هي عليه في بلدانهم الأصلية لأسباب عديدة، منها تولي مهنة التعليم من لهم اختصاصات لا تمت بصلة للتعليم, ومنهم من لا زال متشبثاً بالأساليب التقليدية، ومنهم من لم يتأهل لمستوى التعليم، وتفاوت لهجات المعلم بحكم تفاوت عدد مجموعة التلاميذ الذين هم من بلدان عربية متعددة كالعراقي والمغربي والمصري وغيرهم. ولكي أكون أكثر مقربة من هذا الواقع، أنا شخصيا تلمست هذه الحقيقة من معايشاتي في حقل التعليم والتدريس على مدى أربعة عقود بالرغم من اعتمادي الفصحى وفق المناهج المقررة إلى جانب تمكني من اللهجات الشائعة التي تسهل علي فكرة إيصال بعض الشروحات الإيضاحية التي تستوجبها اللهجة العامية المناسبة للهجة التلميذ. فهل يتوفق المعلم في إداء رسالته ومهمته إن لم يتمكن لهجة بعض التلاميذ؟! من أجل أن أكون أكثر واقعياً وصريحاً أروي هنا ما لمسته ذات مرة من أحد المطبقين لدي الموفد من معهد معلمي اللغة العربية في ستوكهولم حين سأل عن فائدة القلم من خلال الجملة المقروءة، لتسأله إحدى الطالبات عن معنى القلم، مجيباً أياها بلهجة " ألم " لتفهم منه بأنه يعني " الوجع ". ولدى حيرته من إيصال المعنى سارع برفع القلم وأشار لما يعنيه، فأجابته الطالبة قائلة: " الله يخليك استاذ، دي گول گلم " بلهجتها الخاصة. هناك الكثير من هذه الحالات التي تصادف المعلمين الذين هم بعيدون عن لهجة التلميذ الذي ورث نطق الكلمة بلهجة المحيط العائلي والبلد الأصلي الذي قدم منه، وعلى نحوٍ خاص وظاهر للعيان أثناء الكتابة الإملائية في المراحل الأولى من التعليم لهجاء الكلمة باللفظ المتطبع عليه التلميذ، كأن يلفظ أو يكتب الجيم بالكاف أو الياء كقولهم في اسم "دجاجة" دگاگة كما في مصر ودياية كما في جنوب العراق ودول الخليج، ناهيك عن العديد من الحروف الشبيهة لهذه الحالة كتغيير لفظ حرف الظاء بالزاي، والضاد بالدال، والقاف بالهمزة وغيرها، علماً بأن هذه الظواهر متواجدة نسبياً في كافة اللغات على وفق محيط البيئة الجغرافية على سبيل المثال وغيرها من العوامل.
أما أن " يُعتبر المعلّم الأساس في نجاح أي تطوير تربوي" وفق ما أشار اليه مدير مكتب اليونسكو الإقليمي للتربية في الدول العربية مستبعداً بعض العوامل الهامة، فهي حالة لا تنطبق مع فاعلية العمل التعليمي حين يشير قائلاً: "مهما كانت نوعية وجودة المناهج الدراسية ووفرة التقنيات التربوية، ومهما بنينا من خطط واستراتيجيات، يبقى نجاحها مرهون بيد المعلّم. لذلك، الاهتمام بتأهيله وتدريبه يُعتبر من ضروريات نجاح النظام التربوي".
نعم، أن مسألة الإهتمام بتأهيل وتدريب المعلم من مستلزمات المهنة على مرور الزمن من جراء ما يستحدث في العمل التطبيقي في أرقى الدول على يد الإختصاصيين التربويين وعلماء النفس التربوي والإجتماعي وغيرهم ممن يسعى للنهوض والإرتقاء بما يشفي الغليل. أما أن نتغافل ونتغاضى عن أهمية المناهج الدراسية والفروق الفردية ووسائل الإيضاح الأخرى هي عملية لا يمكن الإستغناء عنها طالما تعد من الأجزاء المكملة لنجاح العملية التربوية، وطالما يعتمدها المعلم في إتمام واجبه، ومن دونها لا تستكمل الأهداف المرجوة، وما سعى إليه التربويون على تحسين نوعية العملية التعليمية وتشجيع رسم السياسات المدروسة على استحداث انجع السبل في العديد من الدول التي بلغ فيها التعليم أرقى المستويات كالدول الإسكندنافية مثلاً. لذلك، وكما ينبغي المبادرة على رفع مستوى رسل العلم والمعرفة، يستوجب أيضاً وعلى نحوٍ متزامن من تشذيب المناهج التعليمية وفق أحدث الطرق المشوقة شكلاً ومضموناً، وكذلك ما يتعلق بالواقع المدرسي وظروف التلاميذ كونهم يشكلون الدور الجوهري والمركز الرئيسي في دائرة التعليم، وبدون وجود ذلك لا وجود للمعلم ولا وجود لعملية التعلم والتعليم.
[email protected]


&