&«لاَ يُلْدَغُ الْمُؤْمِنُ مِنْ جُحْرٍ وَاحِدٍ مَرَّتَيْنِ» &&نبيُ المسلمين

يحضنا كعادته التراث الشفاهي للأمم على استرجاع التجارب الماضية وإقامة المقارنات بين الحاضر والغابر ومن ثم نهل العِبر منها، ومن ذلك ما جاء في الملحمة الكردية "سيامند و خجى" وعلى لسان خجى حيثُ تقول لسيامند لا تنغر بقوتك، وذلك عندما انتابت سيامند لحظات الغرور بحضور حبيبته وهو يتوجه لذبح الوعل بهدف انتزاع كبده لتقديمه لحبيبته خجى، فيدفعه الوعل الى أسفل جرفٍ صخري ليفارق بطل الملحمة حينئذٍ الحياة، فأهمية ذلك المقطع تحضنا على مقاربته بكونه جديرٌ بأن يُؤخذ بعبرته وربما الاقتناع من خلاله بأن المرء مهما كان قوياً أو واثقاً من نفسه، إلا أنه يبقى مُطالباً بأن لا تدفعه الثقة الزائدة الى التبجح بما يمتلكه من البأس والحماسة، ووفقاً للعُرف والأصول فعليه أن يبقى مفعماً بالتواضعِ وملتزماً بما أجمعت عليه قيم البطولة والشجاعة في العالم مهما كان قوياً، اذ أن الوصول الى حالة المفاخرة عادةً ما تكون مضارها أكثر من فوائدها، وهذا هو حال بعض المتحمسين من الكرد في قتالهم لتنظيم داعش العابر للحدود، إذ أن انتصار البيشمركة على داعش في عدة مواقع دفع بعضهم للغرور، وبالتالي المباهاة بإعلان الحرب على التنظيم المذكور، وكأن الكردي وحده البطل المعني بمحاربة هذا التنظيم الذي ساهمت في تنشئته العديد من الدول.&

كما أن يوميات حرب البيشمركة مع داعش حرضت الذاكرة على استحضار ما جاء في سياق مسرحية أدريانا للكاتب أمين معلوف، حيث تقول رفقة لأختها أدريانا بأن العقرب يجب أن نقتله أو ندعهُ وشأنهُ، وذلك عندما يحاول الشاب السكران تسارغو اعتراض سبيلها والتودد إليها، بينما تقوم أدريانا بإذلاله وإهانته، وهو ما يدفع تسارغو بعدها الى التسلح والعودة الى بيت أدريانا واغتصابها، وعلى غرار تسارغو فالعالم كله يعلم بأن داعش لا يقل خطورة عنه، ومن المنطقي أن الكرد ما داموا غير قادرين على إنهاء التنظيم، فمطلوبٌ منهم إذن الاكتفاء فقط بإبعاد خطره عن حدودهم، ويتركونهم في حال سبيلهم ليؤسسوا بعيداً عن تخوم الاقليم جمهورية الآخرة في المناطق التي تحلو لهم وتناسب مضمار قيامتهم، أما أن يتنطع بعض الكرد ويصيبهم الغرور بتصورهم بأنهم معنيون بمحاربة التنظيم عوضاً عن العالم المتحضر كله، فهذا التفكير يجب التخلص منه، وهو غلو ينبغي التحرر من أحابيله والتفكير بنتائج العداوة، فمعروف أن قوة داعش الاقتصادية والتسليحية غدت مضاهية لقوة دولة بأكملها، وحسب الاقتصاديين أن ميزانية داعش لعام 2015 هي مليار ومئتي وخمسون مليون دولار، أما عسكرياً فالكل يُدرك بأن الجيش العراقي ترك لهم أحدث الأسلحة الأمريكية في الموصل وكذلك الأمر ففي سويا ليسوا أقل تسليحاً من العراق، ويبقى أن قوتهم البشرية والعقائدية أخطر بكثير من قوتهم العسكرية والمالية، طالما كان الجهل الديني بؤرة جاهزة لانبعاث هكذا تنظيمات، وداعش يمتلك كل مقومات الإيذاء ويتلقى الدعم من الجهات الأربعة، بينما الكرد فلا يزالون واقعين تحت رحمة الدول التي تسلحهم بالقَطارة، وطبعاً وفقاً لشروط الداعمين ومصالهم من وراء تلك الهبات التسليحية، وباعتبار أن القوات الكردية لا تمتلك القدرات التفخيخية والتسليحية مثلما يمتلكها ذلك التنظيم الراديكالي، فهل مطلوب منهم إذن إعلان الحرب على جهةٍ لا قدرة للدول على مقارعتها، ناهيك عن أن داعش ضمنياً يُعبر عن تطلعات الملايين من شعوب الشرق، بما أن تربة المنطقة لاتزال خصبة لاستمرار ولادتهم وولادة من يماثلونهم في المستقبل، وانبثاقهم المتلاحق من قاع التخلف الديني كلما سمحت الظروف بخروجهم، فمعلوم أن داعش كفكر وتنظيم لم يهبط من السماء ولا أتى من الفراغ، إنما هو جزء مهم من هذه البيئة، لذا فالاقليم الكردي بغنى عن تأجيج الأحقاد التاريخية مجدداً طالما كانوا ضحية تلك الأحقاد والصور الذهنية السيئة منذ مئات السنين، وهم بغنى عن إضافة أحقادٍ معاصرة من خلال فكرة نسف التنظيم الذي له ناس وأتباع وعشاق ومريدين، وطالما أن قوة الكرد لا توازي قوتهم وقوة من يدعمهم، أليس من الأفضل تحاشِ شرهم والاكتفاء بحماية حدودهم؟ وبالتالي الكف عن المفاخرة بمحاربتهم ومعاداتهم في وسائل الاعلام، كما يتجنب المرء عادةً ملاقاة العقرب وهو يبتعد عن طريقه لاتقاء شره تحاشياً للدغته، باعتبار أن هذا التنظيم قادر على الإيذاء أكثر من العقرب بكثير، خصوصاً إذا ما تم جرحه مثل العقرب، لذا فما دام الكرد غير مهيئين لاجتثاث التنظيم من جذوره، أليس من الأفضل تركه ليمر بحال سبيله؟ ولتتنعم المناطق التي بايعته وآوته واستساغت توسعه تستطيب بحكمه حتى اشعارٍ آخر، ونكفُ نحن عن التباهي بالصراع التناحري مع هذه الفئة والادعاء بأننا نحارب المتطرفين نيابة عن الكون كله، فأصلاً من الذي سيتذكر الكردي يوماً على ذلك الصنيع، هذا إذا ما أنهى الارهابيين وكالةً عن الشرق والغرب برمته؟ ومن سيذكر تضحياته وبطولاته أصلاً بعد شهور من انتهاء الحربِ ولعنتها؟ وبما أن لدغة العقرب قد تكون قاتلة في بعض الوقعات، لذا أفلا يتوجب على الكردي التريث قليلاً في اندفاعه، وعدم الاستسلام لطرب الأناشيد الحماسية، لئلا يُلدغ أكثر من مرة في المستقبل كما نال الكثير من اللدغات في الماضي.&