في الآونة الأخيرة كثر الحديث عن إن غالبية الشيعية تدافع أكثر من غيرها عن وحدة العراق وترفض التقسيم، وتوجد أقلية شيعية تطالب به. كذلك نسبة عالية من السنة تميل له، وإننا عما قريب سنتلمس تحول هذا الميل الى مطالبة واسعة النطاق.

الأمور كذلك في ظاهر الامر، الا أن هذا لا يعني نوازع انفصالية عند طائفة بعينها ووحدوية عند أخرى. فلا يمكن التعامل مع الشيعة والسنة بثنائية (انفصالي ـ وحدوي). الاتجاهات لا تصنعها القناعات الوحدوية والانفصالية المسبقة، لأن "رموز الطوائف" يتبادلون المواقف بحسب المصالح والتصورات الطائفية والاتجاهات الاقليمية. التمسك بالوحدة لا يعني بالضرورة قناعة راسخة بوجود العراق التاريخي الممتد من الموصل الى البصرة، او من زاخو الى الفاو، هو كذلك في بعض الأحيان، وعند شريحة أو قسم من الناس.

وعدا النزعة الكردية، لا وجود لملامح نزعة انفصالية خلال القرن العشرين، عند العراقيين، شيعة وسنة. وحدة الوطن من المسلمات التي لم تخضع للنقاش والجدل. لقد كان صراع القرن الماضي على من يدير بغداد، بين ايديولوجيات واتجاهات. وفي مراحل أخرى، بين سنة بقوا أصحاب الحكم وشيعة تدرجوا منذ خمسينيات القرن العشرين للمطالبة بأن يحكموا. والتوجهات المذهبية، التي بلغت اوجها حين أصبح للشيعة أحزابهم الخاصة، وحين سلك النظام السابق منهجية صريحة بالقمع والاقصاء الطائفيين، لم تكن انفصالية بتاتا...

الا أن الطائفية بعد 2003 لامست التقسيم. الترويج الإعلامي لهذا الموضوع، والقول بأن امريكا تريده، حتى لو لم تكن تريده فعلا، وشعار "تقرير المصير" الذي رفعته الاحزاب الكردية... عوامل أخذت النزاع نحو منطقة غير تقليدية. في ظل هذا الوضع يصعب الحديث عن نزعات انفصالية أو وحدوية موجودة مسبقاً، انما عن مصالح، وقناعات مبنية على الظروف. حسابات الزعامات السياسية وحلفائها الاقليميين ومراكز القوى المجتمعية والدينية، تصنع الميل للتقسيم او الوحدة. انعكاس هذا على الشارع، بدأ يوجد نزعة انفصالية، شعور بضرورة التقسيم. بتعبير آخر؛ ان العوامل مجتمعة، وعلى رأسها حسابات أصحاب القرار والنفوذ، خلقت بوادر هذه النزعة داخل الشارع.

في ظل هذه البوادر، وعلى الارض، العراق مقسم. ثلاثة وجودات منفصلة عملياً؛ داعش تسيطر على مساحات واسعة من المحافظات السنية، وأغلب المناطق المتنازع عليها تخضع لسيطرة البيشمركة، وبقية المناطق تتقاسم النفوذ فيها القوى الشيعية عبر الحكومة او الجماعات المسلحة على الارض او المرجعية الدينية. تلك عوامل تعزز من فرض تفكك البلاد. وتشكل نزعة انفصالية داخل الشارع العراقي، خصوصا مع اليأس من فرص التعايش، وموجة الكراهية المتعمقة.

وبات واضحا ان مراكز القوى في الطائفتين تميل للوحدة حين يكون الحكم تحت سيطرتها، وعندما تفقد تلك السيطرة وفرصة الحصول عليها، تميل للانفصال. مركز القوة الشيعي وحدوي لأن الوحدة تحقق مصلحته، باعتباره صاحب السلطة. وبعكسه السني الذي اصابه اليأس من استعادة السلطة، فبدأ يبحث عن صيغة أخرى، ومنها ان يحكم مناطقه بنفسه، أي ان ينفصل بشكل اقليم أو دولة!. المعادلة بانتظار حسم معركة ترسيم الحدود المشتعلة جنوبا وشمالا. أي ان الحديث اليوم عن وحدويين وانفصاليين ضرب من العبث، الموجود في اللحظة الراهنة مصالح في الوحدة ومصالح في الانفصال، متغيرة، مرنة.

المرونة، وحالة النفاق والتردد وعدم الوضوح... تجعل مهمة التقسيم خطيرة جدا، لأنها لا تنبع من تصورات واضحة، بل متحركة، أي قناعات لا يمكن بناء قرار كبير وعميق كالتقسيم، عليها... اتخاذ القرار يحتاج الى ثبات، وليس الى جماعات يمكن ان تتلاعب بكل شيء، ويمكن أن تلعب على حرب الاستنزاف للمحافظة على مكاسبها "المتغيرة الموضوعات والمجالات". ومهما أمكن مناقشة التقسيم، فإن إحالته لهذه الجماعات التي أخفقت لـ 12 سنة، حماقة كبيرة.

امريكا قد لا تهتم بالتقسيم، على الاقل، ليس بالضرورة كما يروج، غير أن السياسة المعروفة للولايات المتحدة هي اعتمادها على المتوفر لفرض مصالحها. العراقيون يمكن أن يصنعوا ما يقنع واشنطن، اذا ارادوا، ويبدو أنهم لا يريدون حتى الان... أو بتعبير أدق؛ ان "صفة" عراقي أٌقل اقناعاً من شيعي وسني وكردي.

&