في ثقافتنا الشعبية إذا أردنا امتداح إنسان قلنا له: "كن رجلاً"، وإذا أردنا ذماً قلنا: "لا تبك مثل النساء"، وكثير من الرجال يفضل أن يظهر قسوة قلبه على أن تبدر منه لحظة عطف إنساني فإن أثر فيه موقف عاطفياً خنق دموعه وعاند تلقائيته حتى لا يسجل الناس عليه أنه ضعيف، لأن الناس قد تمتدح قاسي القلب بأوصاف مثل الجلد والشجاعة والقوة لكنها لا تغفر للرجل عاطفته وتفسرها بأنها ضعف وعجز..
هذه النظرة الثقافية هي التي تشجع الرجال على القسوة وإشعال الحروب والإفراط في استعمال السلاح وما يؤدي ذلك إليه من مآس ومصائب، كل هذا حصاد ثقافة جاهلية تعبد البطولة ولا ترى سبيلاً إليها إلا التهور والقسوة والقطيعة مع العاطفة والرحمة الطبيعية في الإنسان..
هذه الثقافة جعلتنا ننظر إلى العاطفة على أنها عيب ومنقصة في حق صاحبها فإن رأينا من الرجل ميلاً نحو الرحمة والرأفة في قراراته نهرناه بسيف ثقافي قاطع بالقول: "لا تكن عاطفياً"!!
وما العيب في أن يكون الرجل عاطفياً، وما قيمة العقلانية الجافة التي لا تأخذ بعين الاعتبار الإنسان وعدم إيذائه أو جرحه!
إن مشكلة العالم اليوم في جوهرها الثقافي ليست إلا في غياب العاطفة التي تكوِّن وعياً عاماً مضاداً لإشعال الحروب وسفك الدماء وتخريب البيوت، ليت الناس كلهم عاطفيون إذاً لاقتربوا من رحمة الله تعالى ولهبًّت نفحاته عليهم فأحالت حياتهم سلاماً وحباً.. أين أجدك يا رب؟ عند المنكسرة قلوبهم والرحماء يرحمهم الله..
العاطفة هي السر الإلهي الذي أودعه الله في خلقه، فمن رعاه كان أهلاً لأن تصيبه رحمة الله تعالى، وويل لقساة القلوب لأن قسوة القلب لا تذيبها إلا النار.
إن الطفل أول ما يفتح عينيه لهذه الحياة فإنه ينتظر من أمه وأبيه احتضاناً عاطفياً لا مواقف عقلانيةً، إن الابتسام للطفل واحتضانه وغمره بالقبلات والحنان هو الذي يرافقه في خطواته الأولى في الحبو والمشي والنطق، ولولا هذه العاطفة التي تغمر الطفل من كل جانب لما نجح في اختباراته الأولى في الحياة، ولولا الحب لما صبرت أمه وأبوه على مشقة تعليمه..
إن الرجل الذي لا يبكي هو رجل قاسي القلب، وقد بكى النبي محمد صلى الله عليه وسلم على ولده إبراهيم وبكى في مواقف كثيرة، وغضب من رجل قاس حين أخبره أنه لم يقبل أحداً من أولاده فقال له: ماذا أفعل لك وقد نزع الله الرحمة من قلبك..
إن بذور الأفكار خطيرة ومدمرة، ففي ثقافة يسود فيها أن العاطفة منقصة يحاول الرجل أن ينفيها عن نفسه فيعيش حياته متهوراً جاف المشاعر بدءً من قيادة المركبة مروراً بعلاقاته الاجتماعية انتهاءً بحمل السلاح واستسهال الضغط على الزناد وسفك الدماء..
القرآن لا يعبأ بقيمنا الذكورية، لذلك يقدم لنا نموذج الحاكم الذكر الفاشل الذي يفسد في الأرض ويستكبر فيها ويشعل الحروب في مقابل نموذج الحاكمة المرأة الناجحة سياسياً بميولها السلامية ورغبتها في تجنيب قومها شر الحروب وهي ملكة سبأ التي اعتمدت الأساليب الدبلوماسية والسياسية لاسترضاء سليمان : "وإني مرسلة إليهم بهدية"، ولم تلتفت إلى الآراء الذكورية: "نحن أولو قوة وأولو بأس شديد" فنجحت مدرستها السلامية ولم يعتبر القرآن مساعيها لتجنب الحرب ضعفاً وانهزاميةً..
سمعت ذات مرة من عفراء جلبي أن إحصائيةً في إحدى الدول الاسكندنافية أجريت على البرلمانيين والبرلمانيات أظهرت أن أكثر الكلمات التي يرددها الرجال هي كلمات من قبيل: "الأمن القومي- التسليح- الدفاع-.." في حين أن أكثر الكلمات التي ترددها البرلمانيات النساء هي من قبيل: "الأمومة-الطفولة-الصحة- التعليم-.." ..
صرت على قناعة بأن عالماً يبرز فيه دور المرأة أكثر وتتعزز فيه قيادتها هو عالم أكثر إنسانيةً وسلاماً وأبعد عن الحروب والطيش الذي جلبه جنون الرجل وقسوة قلبه.

كاتب فلسطيني
&