تعتبر اعادة الحياة إلى "بيت المستقبل" الذي اسسه الرئيس أمين الجميّل جزءا من عمل كبير يقوم به الشعب اللبناني يُختصر بكلمة مقاومة. مقاومة الشعب اللبناني ليست كلاما فارغا، خصوصا أنّ اللبنانيين يدركون في العمق مغزى "مقاومة" ذات طابع مذهبي يحتكرها "حزب الله" بارتباطاته الإقليمية. نلك "مقاومة" أخرى في سياق استبدال الوصاية الإيرانية بالوصاية السورية ـ الإيرانية التي انتهى عهدها في العام 2005 مع خروج القوات السورية من لبنان إلى غير رجعة.
ولذلك، تبدو المقاومة اللبنانية في جانب منها مقاومة لـ"المقاومة" التي لا هدف لها سوى الحاق لبنان بالمحور الإيراني ـ السوري الذي تتحكّم به طهران التي تحوّلت إلى صاحبة الكلمة الأولى والأخيرة في دمشق.
صار لـ"بيت المستقبل" مقرّ جديد في سرايا بكفيا التي تجسّد إلى حدّ كبير التراث اللبناني وحقيقة باتت ثابتة في آن. تجسّد السرايا أنّ لبنان ليس دولة عابرة، بل هو ركن من أركان النظام الإقليمي وتركيبته بغض النظر عن التغييرات التي ستطرأ على خريطة المنطقة.
ما يكشفه المؤتمر البحثي الأول الذي يستضيفة المقر الجديد لـ"بيت المستقبل" أنّ لبنان يعود تدريجا، وإن ببعض الحياء، إلى لعب دوره على الصعيد الإقليمي، أقلّه من زاوية أنّه مكان تتفاعل فيه الأفكار بكل ما فيها من تنوعّ. إنّه تفاعل إيجابي بين أفكار مختلفة، بحثا عن حلول للمشاكل المعقّدة التي يعاني منها الشرق الأوسط حيث لم يعد سرّا أن المواجهة أخذت، للأسف الشديد، بعدا مذهبيا في اطار ما يسمّى الإسلام السياسي بشقّيه السنّي والشيعي...
كان عنوان المؤتمر البحثي الأول لـ"بيت المستقبل": مشروع مارشال العربي، شراكة وتعاون من أجل مستقبل أفضل للشرق الأوسط. ومشروع مارشال، باسم جورج مارشال وزير الخارجية الأميركي وقتذاك، هو مشروع المساعدات الأميركية لإعادة بناء اوروبا بعد الحرب العالمية الثانية. نجح هذا المشروع في اعادة الحياة إلى اوروبا، بما في ذلك المانيا من جهة، ومواجهة الخطر الشيوعي من جهة أخرى. لعلّ المقاربة الأهم في المؤتمر، هي تلك المقارنة بين الفكر التوتاليتاري للنازية والشيوعية، الذي شكّل تهديدا للمجتمعات الأوروبية قبل الحرب العالمية الثانية وخلالها وبعدها،& والفكر المتطرف الذي يهدّد الشرق الأوسط حاليا. أكان هذا الفكر، فكر "داعش" واخواته، أو فكر الميليشيات الشيعية المدعومة من ايران.
هناك مقطع في الخطاب الذي افتتح به أمين الجميّل المؤتمر يقول كلّ شيء تقريبا عن هدف المؤتمر. قال الرئيس اللبناني السابق: " إنّ بيت المستقبل راغب وقادر على إحتضان مبادرة لبنانية ـ عربية ـ دولية تقتبس تجربة مشروع مارشال، الإقتصادي الإنمائي، في اعقاب الحرب العالمية الثانية. إنّ هذا المشروع أنقذ أوروبا وأعاد إعمارها من الصفر، وساهم بنهوضها من تحت الركام. ومنطقة الشرق الأوسط بواقعها الأليم وكيانها المهدوم واقتصادها المأزوم، لن تقوم لها قيامة إلّا بمشروع شبيه ومماثل. وفي البعد السياسي لهذا المشروع، إنّ إعادة الإعمار وضخّ الأمل في نفوس أبناء المنطقة من شأنهما المساهمة في الحدّ من الفكر التكفيري والمشاريع السلطوية، تماما كما واجه مشروع مارشال الفكر العقائدي التوتاليتاري في حقبة الحرب العالمية الثانية وما تلاها".
أشار أمين الجميّل بين ما اشار إليه إلى أنّ "الأزمات والحروب أثرت بشكل كبير على التنمية في المنطقة العربية في السنوات الأخيرة، وإنّ إعادة إعمار سوريا والعراق وغزّة تحتاج إلى ما يقارب سبعمئة وخمسين مليار دولار، وفق تقرير للجنة الإقتصادية والإجتماعية لغرب آسيا (اسكوا) وذلك خلال العاميين 2013 و 2014. وهذا الرقم غير نهائي كون العمليات العسكرية مستمرّة..."
كانت هذه افكار عامة ساهمت في رسم اطار للمؤتمر الذي تميّز بالذين تحدّثوا فيه طوال يوم كامل. من بين هؤلاء، إضافة إلى الرئيس اللبناني السابق، كلّ من بيتر ريمليه الممثل المقيم لمؤسسة كونراد اديناور في لبنان، وجو خوري استاذ علم النفس الإجتماعي في الجامعة اللبنانية، وسليم الصايغ وزير الشؤون الإجتماعية السابق في لبنان، وسامي عون الأستاذ في كلّية السياسة التطبيقية في جامعة شيربروك الكندية، وغونتر بكشتاين رئيس الوزراء السابق في مقاطعة بافاريا الإلمانية، وجون بل مدير برنامج الشرق الأوسط والمتوسط في مركز توليدو في مدريد، وفيليب كراولي مساعد وزير الخارجية الأميركية للشؤون العامة سابقا، وعبدالعزيز بن صقر رئيس مركز الخليج للأبحاث (اناب من تحدث عنه)، واندرز وينبوش الشريك الإداري لمؤسسة ستيت فاريوس، وبدر الحميضي وزير المال والنفط في الكويت سابقا، ونجيب ساويرس الرئيس التنفيذي لشركة اوراسكوم للإتصالات والإعلام والتكنولوجيا القابضة، ورؤوف ابوزكي الرئيس التنفيذي لمجموعة الإقتصاد والأعمال، وحسن منيمنه مدير مؤسسة ميدل ايست الترناتيف في واشنطن دي. سي. كذلك، كانت هناك مداخلة قيّمة لوزير الإقتصاد السوري السابق الدكتور غسّان الرفاعي.
أفكار كثيرة طرحت في المؤتمر من أهمّها ما يتعلّق بالتحول الجذري في الإطار الإستراتيجي لمنطقة الشرق الأوسط. ظهرت افكار ملفتة للنظر تساعد إلى حدّ كبير في فهم السياسة الأميركية في المنطقة والتي يشكو عرب كثيرون من قصورها. هناك من شرح للحضور التركيز الأميركي الجديد على الصين وعلى مناطق أخرى في العالم بدل الشرق الأوسط وعن صعود قوى لديها إهتمام أكبر من الإهتمام الأميركي بالشرق الأوسط. على& رأس هذه القوى تأتي الصين والهند. والبلدان يبنيان قوة عسكرية، خصوصا في المجال البحري.
كان هناك تركيز ايضا على ضعف روسيا التي لن تعود قادرة على منافسة القوى العالمية الأخرى في المدى الطويل. كان هناك أيضا عرض للأسباب التي تدعو إلى عدم الرهان على اوروبا.
أمّا بالنسبة إلى لبنان، فكانت اسئلة من نوع ما الثمن الذي سيدفعه الوطن الصغير عندما سينسحب "حزب اللّه" من سوريا، وهذا سيحصل عاجلا أم آجلا؟ وما النتائج التي ستترتب على هذا الإنسحاب في الداخل اللبناني.
عشرات الأسئلة طُرحت في مؤتمر بكفيا. لكنّ الثابت أن هناك انطباعا عاما بات قناعة. هذا الإنطباع هو أن ايران ستوقع إتفاقا مع الولايات المتحدة والمجتمع الدولي في شأن ملفّها النووي. ماذا سيكون دور ايران وأين موقعها في ظل التحول الجذري الذي ستتعرض له التوازنات في الشرق الأوسط. كان هناك ثابت آخر وهو أن النظام السوري انتهى وأن الحديث الآن عن مرحلة ما بعد سقوط الأسد الإبن.
بشكل عام لم يكن هناك قلق كبير على لبنان، على الرغم من كل الأعباء التي يتحمّلها نتيجة تدفّق اللاجئين السوريين عليه. هل مؤتمر بكفيا بداية عودة لبنان إلى لعب دور ما على الصعيد الإقليمي بعدما تبيّن أن تركيبته أقوى بكثير مما يعتقد؟
كان هناك ميل إلى بعض التفاؤل في ظل متابعة الوطن الصغير مقاومته المستمرّة منذ ما يزيد على خمسة واربعين عاما، أي منذ توقيع اتفاق القاهرة المشؤوم في العام 1969 من القرن الماضي.
كان مؤتمر بكفيا بمثابة اعلان عودة ثانية لـ"بيت المستقبل" الذي يشرف عليه الصديق سام منسّى. كان كمن يضيء شمعة في الظلام الدامس الذي يعمّ الشرق الأوسط. كان كمن يضيء شمعة من أجل لبنان...من بكفيا.&&&
&
- آخر تحديث :
التعليقات