ليس& صدفة صمود الأردن في وجه العواصف التي تجتاح المنطقة. سرّ الصمود الأردني ليس فقط في رجل استثنائي هو الملك عبدالله الثاني الذي استطاع مقاومة موجة المزايدات والمزايدين التي عصفت بالشرق الأوسط. هناك أيضا تلك القدرة العجيبة التي لدى المملكة الأردنية الهاشمية على التعاطي مع مشاكل المنطقة بطريقة خاصة بها. إنّها القدرة على المتابعة أوّلا. فمواجهة التطرّف ليست قضية موسمية، بل هي جزء من السياسة الأردنية. الإصلاحات ليست موضوعا عابرا. هناك اصرار على السير في هذا الخط الذي لم يبدأ البارحة. بدأ هذا الخط منذ قيام المملكة التي تعرّضت لظلم ليس بعده ظلم بسبب محاولة ملوكها إدخال بعض العقلانية على التفكير العربي.
تكمن مأساة الأردن، ومصدر قوته ومناعته في الوقت ذاته، في أنّه حاول دائما جعل المنطق يتغلّب على& انفلات الغرائز الذي لم يأت على العرب سوى بالكوارث بدءا برفض مشروع التقسيم& في فلسطين وصولا إلى ما هم عليه الآن، مرورا بالطبع بهزيمة العام 1967 التي ما زالوا يعانون من آثارها حتّى يومنا هذا.
قبل عشر سنوات، بادر الأردن إلى جمع ممثلين عن كل الطوائف والمذاهب من أجل التوصل إلى "رسالة عمّان" التي تدعو أول ما تدعو إلى العيش المشترك في المنطقة. في 2005، لم يكن هناك بعد "دعاش" ولا دواعش سنّية أو شيعية. كان الهدف من "رسالة عمّان" إعطاء فكرة عن الإسلام الحقيقي الذي هو دين الإنفتاح والقبول بالآخر وليس دينا يدعو إلى التزمّت والعنف.
في 2015، يعيد عبدالله الثاني التذكير بـ"رسالة عمّان". كان ذلك في مؤتمر انعقد أخيرا في استانا عاصمة كازخستان. كان الهدف من المؤتمر تأكيد القدرة على التعايش بين مختلف الديانات والمذاهب. قال عبدالله الثاني في استانا ما يجب قوله عن ضرورة متابعة الحرب على الإرهاب دفاعا عن مبادئ الإسلام. أوضح في الخطاب الذي القاه أننا "نحن المسلمين، نتعرّض اليوم لهجوم وحشي من الخوارج الذين يشوهون ديننا لتبرير جرائمهم الفظيعة". أضاف: "لا يؤذي ديننا أو مشاعر المسلمين شيء أكثر مما تؤذيهم أفعال هذه العصابات المجرمة التي تؤجّج الطائفية وتشعل الفتنة في الأمة وتضلّل الشباب وتغريهم بالتخلي عن مستقبلهم وتنشر العنف في جميع انحاء العالم".
قال عبدالله الثاني الأشياء كما يجب قولها، خصوصا في ظلّ الحرب التي يخوضها الأردن مع "داعش" ومع إخوان "داعش" وأخواته من أنظمة عربية تراهن علي الإستثمار في نشر التطرّف من أجل تبرير بقائها ومتابعة قهر شعوبها.
في مقدّم هذه الأنظمة يأتي النظام السوري الذي يرفض الإعتراف بأنّه إنتهى وأنّ رهانه على "داعش"، الذي تحوّل إلى حليفه الموضوعي، لن يخرجه من مزبلة التاريخ التي لا مكان له خارجها...بل في اسفلها.
"رسالة عمّان" قبل عشر سنوات، هي رسالة الأردن. هي رسالة الهاشميين. رسالة الملك عبدالله الأوّل والملك حسين وعبدالله الثاني. إنّها رسالة دفاع عن الإسلام. تقول الرسالة ما كرره العاهل الأردني في استانا عن "أنّ الإسلام يدين هذا العنف بالمطلق، سواء استهدف المسلمين أو المسيحيين أو الأقلّيات الدينية. قبل عشر سنوات جاءت رسالة عمّان لتبرز قيم الإسلام الحنيف ودعوته القائمة على احترام الآخرين والتعاطف والعدالة الإجتماعية والرحمة والتسامح والإجماع. هذا هو نهج الإسلام. وهذا هو نهج الأردن. إن نشر قيمنا يتطلّب تطبيق رسالتنا. أمّا في ما يتعلّق بهزيمة الإرهاب العالمي، فإنّنا نحتاج إلى نهج شمولي يبدأ بمعالجة الظروف التي تستغلّها الجماعات الإرهابية. من هذا المنطلق، فإنّ الإقتصاد الذي يشمل الجميع أمر أساسي. ولا بدّ من التوسّع في تحقيق الإزدهار وخلق الفرص لتشمل المجتمعات والمجموعات الضعيفة التحصين، خصوصا الشباب".
لا تهاون في الحرب على الإرهاب. لا مجال لأي تردّد من أي نوع كان. لا هرب من تحمّل المسؤولية، بدل إلقائها على الآخرين. تعلّم الأردن من تجارب الماضي القريب والبعيد. هذا ماجعله يحصّن نفسه من داخل كي يكون واحة من الواحات القليلة في المنطقة التي فيها عيش مشترك بين الديانات والمذاهب. في الأردن ملك يتجرّأ على القول: " إن ديننا يعلّمنا ما هو الخطأ. فمن الخطأ إهانة الدين وعدم إحترامه. من الخطأ التمييز ضد الآخرين واضطهادهم. ومن الخطأ تدنيس أماكن العبادة".
في النهاية، لا يدافع الأردن عن نفسه فقط. إنّه يدافع عمّا بقي من قيم في هذه المنطقة، خصوصا في ظلّ ما يدور في سوريا والعراق، حيث رهان الدواعش الشيعية على "داعش" الذي يسعى باسم أهل السنّة، الذين هم براء منه، إلى تشويه صورة الإسلام.
يقرن الأردن الكلام بالأفعال. هناك ظلم لحق بطارق عزيز، البعثي المسيحي، الذي لعب ادوارا ما في عهد صدّام حسين، من دون أن يمتلك يوما القرار. كان طارق عزيز لاعبا ثانويا في العراق في وقت كان النظام يعتمد أوّلا وأخيرا على تركيبة ذات طابع عائلي تتلطّى بمبادئ حزب البعث التي خرّبت بلدين هما سوريا والعراق.
كان هناك اصرار لدى الميليشيات المذهبية، التي تتحكّم بالعراق منذ العام 2003، على الإنتقام من طارق عزيز من منطلق طائفي لا غير. في النهاية، لم يجد طارق عزيز مكانا يُدفن فيه غير الأردن. هذه الأخلاق العربية. هذا هو الدين الذي يعترف بالآخر. هذا هو الأردن الذي يحارب الإرهاب حقّا، أي بالأفعال والأقوال في الوقت ذاته. هذا ما يميّز الأردن عن الآخرين الذين يسعون إلى نشر التطرّف في الجانب الآخر لتبرير قمعهم لشعوبهم.
التطرّف لا يواجه لا بالبراميل المتفجّرة ولا بالإنسحاب أمام "داعش" وتركها تسرح وتمرح، وكأن لا خيار آخر أمام السوريين سوى بين النظام الأقلّوي المدعوم من الميليشيات التابعة لإيران...وبين "داعش". هناك خيار آخر في المنطقة. إنّه الخيار الأردني. هذا خيار قابل للحياة. الدليل على ذلك "رسالة عمّان" عن الإسلام الحقيقي وعن التعايش بين الأديان. عمر الرسالة عشر سنوات. ما ورد فيها يصلح لليوم ويصلح للغد في حال كان من مستقبل آخر للمنطقة غير مستقبل الحروب الدينية والمذهبية التي يمكن أن تدوم عشرات السنين، خصوصا في ظلّ كلّ هذا التخلف الذي يعاني منه الشرق الأوسط.