&ما زالت المبادرات تظهر وتختفي من تحت رداء ما عرف بالمصالحة الوطنية، المرحلة الاخيرة من العدالة الانتقالية التي دعت احزاب العراق الجديد الى القيام بها للانتهاء من مشروعها لبناء الدولة العراقية وفقا لتصوراتها، ومن ابرز ما يشار اليه في هذه المرحلة ما عرف بالمبادرة الوطنية للسلم الأهلي وبناء الدولة التي يقودها السيد عمار الحكيم، رئيس المجلس الاسلامي الاعلى،وقال الحكيم نهاية ايار / مايو الماضي في كلمة القاها خلال حفل تأبيني لذكرى أربعينية رحيل رجل الدين العراقي محمد بحر العلوم "نعمل على صياغة وثيقة سياسية جامعة تمثل خلاصة مجموعة كبيرة من الأفكار والجهود والرؤى السياسية التي قدمت من مختلف الأطراف".
وتحليل هذه المبادرة يتطلب اولا التوقف عند خلفياتها التاريخية، فهي ليست المرة الاولى الى يبادر فيها المجلس الاسلامي الاعلى بزعامة رجل الدين الشاب لحلحلة المشاكل السياسية - الاجتماعية، فسبق له الدعوة لعقد اجتماعات المائدة المستديرة للرئاسات الثلاث لحل مشاكل العراق العاجلة، وهو الاسلوب الذي يتبعه اليوم الرئيس العراقي فؤاد معصوم، كما سبق له وان طرح من خلال ممثليه في اجتماعات قادها الاتحاد الاوربي لعقد اجتماعات ما بين ممثلين عن القوى السنية والشيعية والكردية الى طرح افكاره حول مستقبل العقد الاجتماعي في العراق الذي يتلخص في كونه لا يكتمل عقده بإغفال اي قوة اجتماعية باعتبار ان البلد لا بد وان يحكم بالتوافق الاجتماعي الشامل من خلال حكومة شراكة وطنية.
مثل هذه الافكار، ثبتت في الكثير من الوثائق الوطنية ما بين فرقاء العملية السياسية في العراق الجديد،مثل اتفاقية اربيل 2010 التي رفض رئيس الوزراء السابق نوري المالكي تنفيذه، وانتهى بمحاكمة نائب رئيس الجمهورية الاسبق طارق الهاشمي ومطاردة نائب رئيس الوزراء رافع العيساوي، كما ثبتت مثل هذه الافكار في برنامج عمل حكومة رئيس الوزراء حيدر العبادي، وابرزها موضوع التوازن في المناصب الامنية والقيادية في وزارات الدولة، لكن ايضا لم ينجح العبادي حتى الان الولوج الى مثل هذا العقد الاجتماعي الذي ينقل افكار عمار الحكيم الى واقع التطبيق العملي،مما جعل مؤتمر باريس الاخير للتحالف الدولي لمكافحة الارهاب، يشدد على العبادي اهمية المصالحة الوطنية مقابل الدعم المادي والعسكري في الحرب على تنظيم الدولة الاسلامية "داعش"، وكان وزير الخارجية الفرنسي قد شدد على أن الحكومة العراقية لم تلتزم بتعهداتها بالانفتاح على المكونات السياسية والمذهبية، وتحديداً المكون السني وإنشاء جبهة وطنية موحدة ضد "داعش"، وأصر على أن "لا حل عسكريا بدون حل سياسي".
&وتلقف عمار الحكيم هذه التصريحات ليجدد طرح مبادرته، مؤكدا خلال احتفال مولد الإمام المهدي،اخر ائمة الشيعة الاثني عشرية، الأربعاء( 3/6/2015) على ان أن مبادرة "السلم الأهلي وبناء الدولة" هي حجر أساس يمكن الاعتماد عليه لبناء عراق موحد ودولة عراقية مستقرة، مبينا انها وثيقة تسعى لتحقيق مطالِب كافة المكونات العراقية.. تحت سقف الدستور، مشددا على أنها ليست مبادرة من المجلس الأعلى، مذكرا بان مشروع الإرهاب يتركز على إثارة النعرات الطائفية والدينية والقومية وإيقاع الحرب الأهلية وتمزيق المجتمع ونسف الدولة، مشددا على حماية العراق وشعبه من التفكك والاستدراج إلى حرب أهلية مفتوحة، مبينا أن هذا ما يحلم به الإرهابيون الذين لا يستطيعون تأسيس خلافة مزعومة لهم بوجود عراق موحد ومتماسك وشعب عراقي متفاهم ومتلاحم،عادا الفوضى بيئة الإرهاب المثالية للنمو والتمدد، محذرا من أحلام الإرهاب بتقسيم العراق كي يبتلع أجزاءه المقسمة في دولته (اللاإسلامية الإرهابية).
&كل ما تقدم يطرح سؤال عن حقيقة تطبيق مثل هذه المبادرات، ومحاولة الاجابة عليه لابد وان تستذكر مراحل مهمة من تاريخ العراق المعاصر، تبدأ منذ تفاهمات لندن 2002 بين المعارضة العراقية والولايات المتحدة ممثلة بالسفير زلماي خليل زاده، ظهر مصطلح " العدالة الانتقالية " وبعد تمرير واشنطن لقرار احتلال العراق وتعين بول بريمر حاكما مدنيا عليه، وظف هذا المصطلح في الغاء الجيش العراقي واستبداله بمليشيات الاحزاب، سنية وشيعية، والغاء وزارة الاعلام، وتشكيل هيئة اجتثاث البعث، فضلا عن مؤسسات السجناء السياسيين والشهداء، وظهور موجة عارمة رافضة لمبدأ المصالحة الوطنية، تتكرر ما بين حدث واخر لعل اخرها ما يشير الى الاعدام المتبادل للضحايا (اعدام داعش لمقاتل شيعي على جسر الفلوجة، وحرق مليشيا شيعية لمواطن شني من الفلوجة)، تحت مفاهيم طاردة لفكرة المصالحة الوطنية،جعلت النائب السني ظافر العاني يعرب عن قلقه على مستقبل الاوضاع السياسية في العراق من احتمالات التدويل بعد اجتماعات باريس،وقال العاني في تصريح صحفي "4/6/2015" ان مشكلة النظام السياسي العراقي بعد تلك الاجتماعات باتت مع المجتمع الدولي ومن غير المستبعد في حال عدم الوفاء بما هو مطلوب منه ان تدول القضية العراقية.
ولم تكن المحاصصة الحزبية والفئوية المبينة على تفاهمات لندن اكثر من باب واسع للفساد الاداري والمالي الذي انهك الدولة، وما زال مجلس النواب العراقي عاجزا عن تشريع قانون للأحزاب او المحكمة الاتحادية، والانتهاء من 59 قانونا مطلوب تشريعها طيلة اكثر من عقد بسبب فشل الديمقراطي التوافقية في التوصل الى حلول لهذه المشكلات المستعصية، ومن بينها قانون النفط والغاز، فكان الحل الاخر هو التمدد الجغرافي، في تعزيز مواقع امراء الحرب في مواجهة تنظيم القاعدة اولا، بعد اعادة انتشاره نتيجة عدم احتضان الدولة ولاسيما حكومتي المالكي لما عرف بالصحوات، لذلك ساد النفوذ الإيراني من بوابة هذه المخاوف من عودة البعث من نافذة المصالحة الوطنية لاسيما مع ظهور ممارسات "داعشية " مثل جريمة سبايكر التي ذهب ضحيتها 1700 جندي عراقي من الشيعة، جعل تصريحات" كبار المحللين" تأخذ من جرف المصالحة الوطنية الكثير بانه لا يمكن للشيعي ان يأمن للسني، والعكس صحيح.
لذلك يمكن القول بان تجاهل "الارهاب" كمفهوم يتطلب المواجهة المجتمعية الشامل، وعلى خط مواز، الفساد الاداري والمالي، جعل القيادات الحزبية، لاسيما امراء الحرب منهم، يطالبون المجتمع بان يقاتل الارهاب من مفهوم ضمان عدم عودة البعث لحكم العراق من جديد، وهو مفهوم خاطي كليا، لكنه منتشر بقوة في المواقف السياسية التي تنتهي الى تشنجات في الاجتماعات التي تناقش فكرة المصالحة الوطنية لذلك ظهر مفهوم تتوافقي في العراق " الجديد" يقوم على الاتفاق على سلة من القوانين في حملة تشريع واحدة، لكن ظهور داعش وبالشكل الذي حول الدولة من قوة عسكرية قادرة على المواجهة الى مجرد غطاء للحشد الشعبي، الذي يؤكد حتى قادة الاحزاب السنية بانه الوحيد القادر على الصمود في المعركة مع داعش متغافلين عن سؤال مركزي، كيف لم يصمد الجيش العراقي في هذه المعركة، وهي المشكلة التي ما زالت تدور في اروقة مجلس النواب العراقي ما بين لجنة الامن والدفاع النيابية ولجان التحقيق في جرائم سقوط الموصل وسبايكر ومن بعدهما جريمة الانسحاب من الرمادي.
والسؤال الثاني، هل هناك امكانية الان لتحقيق مبادرة عمار الحكيم؟؟&
&ليست هناك اهمية لمثل هذه المبادرات في السلوك السياسي العراقي وهو يواجه حربا متصاعدة على الارهاب، فالصوت الاول اليوم لقرقعة السيوف وليس للحوارات على طاولة مستديرة، ومساعي التحالف الدولي لحلحلة الخلافات البينية في العراق الجديد، لا يمكن ان تظهر على طاولة الحوار الا بعد ان تنتهي صولات وجولات من هذه الحرب، التي يرى الكثير من كبار المحللين العسكريين بانها ربما تصل الى 5 اعوم او اكثر، بعدها فقط يمكن ان تبدأ مرحلة الحوار، كما سبق وان حصل في الحرب الاهلية اللبنانية التي انتهت بعقد مؤتمر الطائف في العربية السعودية.
&اما طرحها المتكرر من عمار الحكيم، فأهمية طروحاته لا يمكن ان تتعدى طموحاته السياسية في استعادة دور المجلس الاسلامي الاعلى، خيمة الاحزاب الشيعية خلال مرحلة المعارضة لنظام الرئيس صدام حسين، والتي انتهت اليوم الى فريق سياسي يقود 35 نائبا في البرلمان العراقي الحالي بعد ان كان يقود 159 نائبا في برلمان 2005، وهذا الطموح السياسي بانتظار نتائج مواقف دولية مثل مؤتمر باريس للتحالف الدولي ضد الارهاب، وفي ذات الوقت يتحين الفرص المواتية داخليا واقليميا للنفاذ السياسي لعل وعسى تكون له قصب السبق في بناء العراق الجديد.
&
التعليقات