- "إني لأعجب حقا حين أٌرا ما كتبه الكتاب عن مظالم الاحتلال الانگليزي ومثالبه، كالحجر على الأفكار وتقييد الحريات العامة والمصادرة والنهب واستنزاف جهود الفلاحين والسخرة وإذلال العراقيين واضطهادهم. والواقع اني أدركت في طفولتي عهد الاحتلال، وكنت أسمع الناس يتحدثون عنه ويقارنون بينه وبين العهد التركي. ولست أدري كيف أوفق بين هذا الذي كنت أسمعه من الناس وما كتبه هؤلاء الكتاب (اولئك الذين يسوقون الاراء بأن الانگليز صادروا وقمعوا وظلموا لمستوى لم يفعله العثماني)... لست ادافع عن عهد الاحتلال، فهو لم يكن خاليا من المظالم والمثالب... ولكن الذي أعرفه معرفة وثيقة أن الاتراك هم الذين لجأوا الى المصادرة والنهب، أما الانگليز فكانوا على العكس... أما من حيث الحجر على الأفكار وتقييد الحريات العامة فلو قارنا في ذلك بين ما فعله الانگليز وما فعله الاتراك ـ ولا سيما في العهد الحميدي ـ لرأينا فرقا كبيرا... إن عداءنا للانگليز يجب أن لا يكون سببا لتشويه الحقائق" (علي الوردي ـ اللمحات ج5)
لا يبدو، ونحن في الذكرى السادسة والتسعين لثورة العشرين ضد الاستعمار الانگليزي، أن العراق تغيّر كثيرا. ذات المنطق، حتى ما نظنه تغيرا في زاوية النظر، لم يكن كذلك، بل رتوش على الخطاب. العراقيون الذين خنعوا للاحتلال العثماني اربعة قرون، وفي أقل من أربعة أعوام ثاروا ضد البريطانيين، لم يتغيروا. باختصار، لأن الاتراك مسلمون وأن بريطانيا صليبية، وباختصار أكثر ان الاخيرة لم تدخل باتفاقات مع مراكز القوى الدينية والقبلية لضمان مصالحها بينما العثمانيون فعلوا ذلك بعد آخر انتصار لهم على الصفويين. ولهذا بعد أن وضعت ثورة 1920 أوزارها، وبدأت ملامح الدولة العراقية وما تضمنته من اتفاقات ضمنية، لم تحرك مراكز القوى التقليدية التي وقفت ضد الاستعمار، ساكناً. تحركت مراكز قوى شابة وناشئة وبديلة.
ان ثورة العشرين، هي ثورة المؤسستين القبلية والدينية اللتين خافتا على مستقبل هيمنتهمها، واستخدمتا الجمع، قطيع الدين والقبلية المطيع جدا، لتحقيق الغرض، والمبرر موجود وسهل، هو ان المستعمر كافر، يريد تغيير القيم والاخلاق وكل شيء. فحين اطمأتنا الى ان الامور تبقى على ما كانت في زمن الاستانة؛ الاقطاع والتبعية القطيعية، صمتتا. وحين بدأ تهديد جديد، هو تهديد قانون الاحوال الشخصية الذي شرع في زمن عبد الكريم قاسم، وتحدي الشيوعيين، خرجت المؤسسة الدينية الشيعية بفتواها الشهيرة "الشيوعية كفر وإلحاد"، وكانت السنية تقف خلفها بالتأكيد، لأن اليسار يدمر المشروع القومي القائم على الطائفية السنية.
وعلي الوردي في المقطع الوارد يعلق على اراء الكثير من الكتاب المعارضين لبريطانيا في العراق، ويشير الى الكتاب وهم يحملون تصوراً معزولا عن الموجود في الواقع، بل يذهبون بعيداً نحو الادانة المنطلقة من مسبقات، ويبحثون في المبررات لتسويقها. وهذا ما جرى في كل مراحل العراق، البحث في المبررات للدفاع والادانة، لكن هناك ثابت واحد، هو الدين والهوية القومية والوطنية المزعومة. اي تلك المرجعيات الثابتة في الزمن العثماني وفي زمن المملكة. وليس للأمر صلة بالاستقلال.
العراق قبل 1920 لم يكن وجودا مستقلاً، ولا حتى كان قادرا على تكوين وجود مستقل دون قوة من الخارج، خصوصا مع تقسيم الولايات ثلاثة، والانقسام الداخلي الموروث عن عصور مضت. جاءت بريطانيا وجعلت له وجودا "ضمن حدود متنازع عليها مع دول الجوار" لكن سار الامر كما هو، ورأى العراق ان اجزاء من الجوار جزءا منه، فخاض الحروب ليتلاعب بالثابت. ولنقل انه كان على حق، لكن الثمن الذي دفعه يجعل الحق وبالاً. وفي السنوات اللاحقة لقيام الجمهورية، اشتغلت بغداد على استعادة امجادها، امجاد العباسيين او سرگون الاكدي وحمورابي ونبوخذ نصر، ولم تنظر الى أنها دولة تشكلت بموجب اتفاقية عالمية سميت بسايكس بيكو، لا تمتلك المقومات الحضارية الكافية، والنفط لا يكفي مقوما. فالهيلمان الواهم امتداد لوهم "الثورة".
كل ما جرى في العراق من ادعاءات، وليد ثورة العشرين، بمعنى وليد الرؤية الاسلامية ومصالح مراكز القوى المتوارثة بحسب ما أخفاه الكتاب المدافعين عنها، وليس ما رواه الناس الذين تحدث عنهم الوردي. إنها معادلة الهوية "الدينية" التي تفضل أن يكون لايران والسعودية وتركيا... دور صريح في العراق وليس الغرب، لأن البلدان الاقليمية مسلمة أو عربية، والغرب كافر ومسيحي وصليبي، حتى لو كان هو باني الدولة والاقليم له اطماع في تفتيتها. من عمق هذا ظهرت كل الجماعات المدمرة لحلم عراق ما بعد صدام حسين، لأنه ناشئ عن المحتل الكافر، وان ما قبله مهما اختلفنا معه، هو عراق "يقوده مسلم". هي ذات المعادلة، الصمت عن قمع العثمانيين وتجهيلهم وافقارهم للعراقيين، خلال أربعة قرون والثورة ضد البريطانيين بعد أربعة سنين.
فليس لدينا شيء جديد، الزمن متوقف، رغم الكثير من الاحداث في قرن... وثورة العشرين حاضرة، ليس باعتبارها عملاً نبيلاً بل لأن النبل لا تعريف له عندها سوى أنه "هويتنا الدينية"، حتى لو كانت هذه الهوية تخلق داعش وكل مثيلاتها. وبعمق أكثر؛ المحرك ليس الدفاع عن هويتنا، فأمريكا لم تهدد الهوية بقدر ما يهددها الاسلاميون بما يصنعون من نفور، ومن قبلهم الدكتاتور، انما هو دفاع عن مراكز قوى لا تمتلك سوى تعريفها للهوية باب رزق لها، والجمع المخدر لقرون، يتبع تلك المراكز.
&
التعليقات