&صدقوني هذا ما رأيته بالفعل. فقد تصادف عند وجودي في إحدى المؤسسات الدينية أنني لاحظت في غرفة الموظفين وجود ثلاجة طعام بابها مغلق بواسطة قفل و رزة (قطعة من الحديد يَدْخُلُ فِيهَا القُفْلُ). لم اصدق عيني فسألت أحد الموظفين هل هذا صحيح؟ فقال نعم.. للأسف يا سيدي الناس هنا غير أمناء وغالبا ما يقوم أحدهم بفتح الثلاجة ويأخذ ما بها من طعام وشراب وعندما نسأل فبالتأكيد الكل ينكر ويقول "لست أنأ" فاضطررت لغلقها بهذا الشكل. دفعني الفضول إلى مقابلة الرجل المسئول عن المؤسسة الدينية وعندما أخبرته بما رأيت وسمعت أبدى دهشة كبيرة ولم يصدق حتى ذهب بنفسه وبدء يعنف وينتهر من قام بهذا الأمر وطالبهم بإزالة القفل والرزة فورا واعتذر عما حدث قائلا نحن ُنعلم الناس الأمانة والصدق.. نحن نعلم الناس التعفف وعدم السرقة.. المهم شكرته ومضيت إلى حال سبيلي، بيد أن التفكير في هذا الأمر لم يتركني لحظة واحدة وبدأت أتذكر أيام الصبى في حي شبرا الذي ولدت وتربيت فيه كم كنا لا نغلق ابواب منازلنا وكانت الدنيا آمان وكم كنا نأكل ونشرب سويا مع الجيران المسيحيين والمسلمين على حد سواء فقد كانت الشقق السكنية في المنزل لا تغلق ابوابها إلا نادراً. كنا لا نعرف من المسلم ومن المسيحي. كنا نعرف شيئا واحدا فقط اننا مصريين احفاد الفراعنة العظام الذين بنوا الاهرامات التي يحتار بسببها جهابذة العلم والحضارة في العالم حتى اليوم.

والحقيقة انني اعترف بأن المظاهر الدينية في ذلك الزمان لم تكن موجودة كما اراها اليوم. ومع ذلك كان الصدق والأمانة من الصفات المهيمنة على تعاملات المصريين جميعا... وكان اتقان العمل هو الصفة الغالبة على كل العمال المصريين فقد كان العامل المصري من ذوي الأيادي الذهبية كما يقولون مطلوب في كل دول العالم. لقد كان زمن الجامعة والعلماء والأدب والأدباء، والفن وغيرها... وكانت الأحياء الراقية والشوارع النظيفة (في الشارع الذي كنا نسكن فيه في شبرا كان الاطفال يلعبون البلي في الشارع ما يعني ان الإسفلت كان نظيفا ولم يكن عليه تراب يعيق حركة وسرعة البلي) وكان الناس سعداء اكثر بكثير جداً من اليوم.

أما اليوم.. المصريون يأكلون بالدين ويشربون بالدين ويلبسون بالدين ويدخلون ويخرجون ويسافرون ويطيرون بالدين وينكحون بالدين ويتكلمون ليل نهار في الدين وإذاعات دينية كثيرة، وفضائيات دينية أكثر، ومنظمات ومؤسسات وهيئات دينية تنفق الملايين من أموال الفقراء وبالرغم من كل هذه المظاهر الدينية التي تهيمن على حياتنا الآن فالاخلاق عملة نادرة واتقان العمل في خبر كان والتعليم ضعيف، والطب حدث ولا حرج وهكذا الكثير.

ما هي المشكلة؟ وما هو الحل؟.. ٌتعرف المشكلة في علم الرياضيات على أنها علاقة بين أشياء معلومة وأخرى مجهولة وقد تشابكت جميعها فيما بينها، ويكون الحل هو معرفة الاشياء المجهولة فتصبح معلومة وذلك عن طريق فك الاشتباك والفصل بين المعلوم والمجهول فصلا تاماً. كمثال بسيط نعلمه للاطفال. لنفرض أن x-2=6.. هذه مشكلة لأننا نريد أن نعرف قيمة x لوحدها. بدون الإخلال بتوازن المعادلة نضيف العدد 2 إلى طرفي المعادلة فتصبح في الصورة x=8 وهكذا فقد تم معرفة المجهول x وعرفنا قيمته التي هي 8 وتم حل المشكلة.

يسأل أحدهم هل لو أضفنا أي عدد آخر غير 2 إلى طرفي المعادلة يعتبر إجراء صحيح والإجابة نعم صحيح ولكنه لن يحل المشكلة لأن حالة الاشتباك سوف تظل مستمرة!!!

هذه هي مشكلة الدولة أنها تحاول إضافة أي عدد وليس العدد الصحيح إلى طرفي المعادلة وتقول انها تتخذ الاجراءات الصحيحة! ونسبت أو تناست أن هذا لن يحل المشكلة فحل المشكلة هو ايجاد الآليات التي تضمن الفصل التام وفك الاشتباك الكامل بين الدين والدولة..فلا دين للدولة ولا دولة للدين... بغير ذلك ستظل الدولة تتحرك في المكان وليس للأمام نعم تتحرك ولكنها لا تتقدم.

في الواقع إن الثورة الدينية والتي تهدف لتصحيح المفاهيم الدينية لتتوافق مع المقاصد العليا للمشيئة الإلهية.. تلك التي تتطابق مع تطلعات الإنسان نحو الحياة الأفضل لن تأتي بثمار إلا إذا تلازمت بثورة ثقافية شاملة تنمي الوعي والإدراك الإنساني نحو حب الحياة والحفاظ عليها ليس فقط للإنسان وإنما للحيوان والنبات أيضاً..

نريد أن نرى شبابنا مثقف يقرأ في الأدب والشعر والفلسفة.. شبابا يفهم الموسيقى ويشعر بالألحان، شباب يتذوق الرسم والنحت والتصوير... ونريد أن نرى الشوارع نظيفة ليس فقط من القاذورات ولكن ايضا من الاتربة (اخبرني صديق أن بإمكانه أن يسير في احد الشوارع الاوروبية حافي القدمين ويرجع إلى بيته والاقدام نظيفة)... نريد أن نرى الحدائق الجميلة في كل مكان... لا نريد أن نرى كلابا ضالة في الشوارع لأن الإنسان يعتني بها.. نريد أن نعلم اولادنا حب الجمال ونبذ القبح والاعتناء بالمظهر والملبس حتى لا نرى القبح متحركا في الشوارع.. نريد أن نعلم أولادنا اعلاء قيم العطاء والتعفف عن الأخذ لأنه مغبوط هو العطاء أكثر من الأخذ.. هكذا تتقدم البلاد وهكذا يسعد العباد.

[email protected]