لم يكن التوصل إلى الاتفاق النهائي حول البرنامج النووي الايراني بين طهران ومجموعة"5+1"، والذي تم الاعلان عنه اليوم الثلاثاء، أمراً مفاجئاً بالنسبة لمتابعي هذا الملف الحيوي، لذا فإن الخبر الأهم في هذا السياق هو فحوى هذا الاتفاق وتفاصيله وليس في الاتفاق ذاته، فهناك خارطة طريق وقعها رئيس الوكالة الدولية للطاقة الذرية يوكيا أمانو مع الوفد الإيراني المفاوض حول عدد من القضايا الجوهرية، وهناك اتفاق حول شروط رفع العقوبات والحظر الأممي على تصدير الأسلحة إلى إيران وغير ذلك من تفاصيل بالغة الأهمية.
تجاوزت إدارة الرئيس الأمريكي باراك أوباما المرحلة الأولى في الاتفاق مع إيران بالتوصل إلى اتفاق فيينا، ويتبقى أمامها اختبار الكونجرس، الذي يراهن عليه البعض لإفشال هذا الاتفاق، خصوصا بعد أن فقدت إدارة اوباما الأمل في كسب تأييد الجمهوريين لهذه الخطوة، وتحولت الأنظار إلى الكونجرس، الذي منح نفسه في وقت سابق من هذا العام صلاحية مراجعة الاتفاق. عملياً، لن يكون من السهل على الكونجرس الأمريكي عرقلة هذا الاتفاق، حيث يحتاج المعارضون إلى ثلثي أصوات الأعضاء لمنع الاتفاق، ما يتطلب تخلي عدد كبير من الديمقراطيين عن الرئيس، وهذه مسألة إجرائية وسياسية غير متوقعة لاسيما بعد الجهود التي بذلها البيت الابيض مع النواب الديمقراطيين في الكونجرس، بل إن من الوارد أن يحجم الكونجرس عن إجراء تصويت بشأن هذا الاتفاق.
لم يكن من المرجح أن يكون الاتفاق النووي مع إيران موضع قبول أمريكي واسع النطاق، وهذا ماحدث بالفعل حيث وصفته صحيفة "واشنطن بوست" منذ أيام بأنه "أسوأ اتفاق في تاريخ الدبلوماسية الأمريكية" ولكن ينبغي أيضا التعامل مع هذه الأمور بدقة وحذر بالغين لأن الاعلام الأمريكي يجيد لعبة توزيع الأدوار ويستخدم في معظم الأحيان كورقة ضغط على أطراف الخارج لا الداخل، وبالتالي ربما يكون جزءا ولو ضئيلا من حملة الانتقادات الموجهة ضد هذا الاتفاق قبل توقيعه وسيلة ضغط على الإيرانيين للقبول بحلول وسط وتفهم موقف إدارة اوباما التي تسوق الهجوم الاعلامي الداخلي ضدها باعتباره رفضا حقيقيا للاتفاق!.
المهم في المسألة أن هذا الاتفاق هو اختبار تاريخي لأحلام الرئيس أوباما الهادفة إلى تحويل إيران إلى "قوة إقليمية ناجحة وطبيعة ومقبولة" وتلك مسألة يصعب التيقن من تحققها ولو على المدى البعيد لسبب بسيط أنها تتنافر تماما مع الفكر الأيديولوجي للنظام الذي يمتلك نظرة توسعية مذهبية ترتكز عليها شرعيته السياسية وصدقيته وسط اتباع وأنصاره في الداخل والخارج.
هذا الاتفاق ، ببنوده المعلنة حتى الآن، ينطوي على مكاسب ظاهرية عدة لإيران، فقد كان من المفترض أن تُجرى عمليات التفتيش في أي مكان وزمان ودون عوائق وفقا لما ينص عليه البروتوكول الاضافي لمعاهدة حظر الانتشار النووي، ولكن الاتفاق النهائي قد توصل فيما يبدو إلى صيغة دخول مقيدة برغبة القوى الكبرى مع منح حق الاعتراض على التفتيش لإيران، مايعني نزع فاعلية "المفاجأة" عن هذه الصيغة، وتحويل التفتيش إلى إجراء روتيني يمكن لإيران التهرب من استحقاقاته ومعاييره المشددة. نجحت إيران أيضا في الافلات من فكرة الافصاح عن "جميع" الأنشطة النووية السابقة، حيث كانت واشنطن تصر على ان الماضي يفتح مجال لفهم نوايا المستقبل، ولكن طهران تهربت من ذلك بل إن الجانب الأمريكي قد دافع عن التخلي عن شرط السماح للمفتشين بمقابلة العلماء النوويين الإيرانيينوالاطلاع على الخطط ومنشآت الأسلحة بقوله أنه لا حاجة لذلك، وأن التركيز ينبغي أن يكون على المستقبل وليس الماضي، والتأكيد على أن واشنطن "على معرفة تامة ومطلقة" بتفاصيل البرنامج النووي الإيراني.
الجانب الأمريكي يرى أن المحاسبة الجادة للإيرانيين ومحاكمة نواياهم ستكون بعد توقيع الاتفاق النهائي، ولكن هناك من يقول أن من تهرب من استحقاقات الماضي لن يكون من الصعب عليه أن يفلت من التزامات المستقبل، وهذا أمر معقول برأيي من الناحية الواقعية، فإيران التي استطاعت خوض مفاوضات ماراثونية طيلة العامين الأخيرين أنهكت خلالها الطاقات الدبلوماسية للمجموعة الدولية انتزعت مكاسب هائلة من خلال هذا الاتفاق منها رفع حظر التسلح ولو بعد خمسة اعوام، ورفع الحظر عن شركات الطيران الايرانية والبنك المركزي الايراني وشركات النفط الإيرانية، فضلا عن تجاوز فكرة رفع العقوبات التدريجي، واتفق على أن تحصل فوراً على 150 مليار دولار، وهو مبلغ كاف للغاية لتكثيف التدخل الإيراني من اليمن إلى لبنان والبحرين، وتغذية خطط التوسع الإيراني الإقليمي على حساب المصالح العربية.
يقول البعض أن هذا الاتفاق لن يجعل إيران والولايات المتحدة صديقين حميمين الفترة المقبلة، وهذا صحيح إلى حد ما ولكنه ليس بشكل مطلق، فلا ينبغي تجاهل تأثير عامل المصالح المشتركة التي دفعت كل من وزيري الخارجية جون كيري وجواد ظريف لاقامة حوار فعال ومثمر رغم تباين لغة الخطاب ووجهات النظر وحتى السمات الشخصية، فالعلاقات الأمريكية ـ الإيرانية لن تصبح "دافئة" بين عشية وضحاها في ظل موروث العداء المتواصل من أكثر أربعة عقود، فضلا عن تباين وجهات النظر حيال الكثير من قضايا المنطقة والعالم، وبالتالي فالاتفاق قد لا يعني& بالتبعية الصداقة الحتمية خلال المدى المنظور، ولكن من كان يصدق أن تصبح الصين والولايات المتحدة شركاء استراتيجيين قبل عقدين أو ثلاثة عقود من الآن؟ وكما ذكرت تريتا بارسي, رئيس المجلس الوطني الإيراني الأمريكي في تصريحات صحفية أنه& من الممكن بناء الثقة بين البلدين كما بنيت بين وزيري الخارجية كيري وظريف وبقية وفدي البلدين اللذين تنقلا عبر محطات تفاوضية شتى منذ وصول الرئيس حسن روحاني إلى السلطة. ومن ثم، فإنني اعتقد أن التقارب الايراني ـ الأمريكي بات في حكم المتوقع خلال عقد أو أقل من الآن، وهذا الأمر ينطوي على تحولات استراتيجية جذرية في معادلات الامن والاستقرار الاقليمي القائمة منذ نحو عقدين واكثر في منطقة الخليج العربي، وهذا الأمر يتطلب قدراً عالياً من التنسيق والتشاور بين دول مجلس التعاون من أجل الحفاظ على مصالحها في بيئة تعيش مخاض تحولات جذرية في أنماط التحالفات الاستراتيجية بين القوى الاقليمية والدولية.
وأخيرا، قد لا أجد ـ كمراقب ـ وصف أفضل لهذا الاتفاق مما ذكرته صحيفة "واشنطن بوست" التي ذكرت& منذ أيام أنه "يضمن للرئيس اوباما الإرث العظيم الذي يرغب في تركه ورائه، وسيعزز فرص فوز وزير الخارجية جون كيري بجائزة نوبل للسلام الذي يامل الحصول عليها، ويضمن بناء إيران للقنبلة النووية". لذا، فإن الاتفاق النهائي بمحتواه المعلن إعلاميا ـ حتى الآن ـ يعني ميلاد واقع استراتيجي جديد في منطقة الخليج العربي.
&