وصف مار لويس ساكو، بطريرك الكاثوليك الكلدان، المجزرة الأرمنية في العام 1915 بأنها قصة قديمة، مبرئًا تركيا الحديثة منها، ومحملاً الهوية القوية المسؤولية عن كل المشاكل في المنطقة.
&
قام مار لويس روفائيل الأول ساكو، بطريرك الكاثوليك الكلدان، بزيارة تاريخية إلى تركيا في نيسان (ابريل) الماضي، متفقدًا أوضاع اللاجئين المسيحيين الذين هجرهم تنظيم الدولة الاسلامية (داعش) من العراق. وقد أقام نيافته قداسًا في كنيسة مار بتيون الكلدانية، التي رُممت حديثا في دياربكر، اشاد خلاله بالحكومة التركية الحالية، ووصفها بأنها "نظام متحضر غير قائم على الدين"، يمكن أن يقوم بدور قيادي لتحقيق السلام والمحبة. وقال ساكو إن الوقت قد حان لتجاوز ما سماها "مجزرة 1915"، قائلًا إن هذه "قصة قديمة وليست مسؤولية تركيا الجديدة".

قصة قديمة

وستثير تصريحات البطريرك ساكو استغراب أرمن بلدة كسب الحدودية السورية، التي شهدت عمليات تهجير ومجازر ارتكبها الاتراك قبل قرن. وفي اواخر آذار (مارس) الماضي، بدأت في كسب الاستعاضة عن وحدات الجيش التركي بقوات "غير نظامية" مؤلفة من الملتحين الذين سرعان ما طردوا سكان البلدة من منازلهم ونهبوها.

في إيلاف أيضًا النص باللغة الانكليزية:
When an Assyrian leadership is most sorely needed

&

ويجري توثيق الدعم الذي تقدمه تركيا إلى جماعات متطرفة سنية تمارس الابادة الجماعية ضد الايزيديين والمسيحيين والدروز وغيرهم من المكونات غير المسلمة. ومن ابرز هذه الجماعات داعش، الذي قام الجيش التركي بتسهيل دخول مقاتليه إلى سوريا. وهؤلاء المقاتلون أنفسهم كانوا يُعالَجون في مستشفيات تركية ويتلقون الدعم من الجيش التركي في بعض عملياتهم.

إلى جانب التشجيع على اقامة اقطاعيات سنية تحكمها تأويلات ملتزمة الشريعة الاسلامية بتزمت، عمل الرئيس التركي رجب طيب اردوغان وحزبه، حزب العدالة والتنمية، الكثير لأسلمة الحياة السياسية التركية، في عملية اقترنت بمنح الرئاسة سلطة أوسع وحزمة من الاجراءات الاستبدادية التي تستهدف حرية التعبير والحريات السياسية والاجتماعية. وأخذ اردوغان يشهر القرآن في فعاليات عامة ويتهجم على خصومه من غير السنة وغير الاتراك على أساس انتمائهم الديني والإثني. وخلال الفترة التي سبقت الانتخابات الأخيرة، نصح سياسيو حزب العدالة والتنمية بعدم التصويت للمرشح الايزيدي علي اتالان، عضو حزب الشعب الديمقراطي الكردي المعارض، بوصفه "وثينًا".
&
العداء للهوية

العمل من أجل العدالة لم يتم على هامش الماضي، بل هو طريقة لاستجلاء الحاضر وبناء المستقبل. إلا أن التفاتة من نوع تمجيد عمل رمزي كالسماح بإقامة قداس شكلت تراجعا كبيرا في هذه العملية. ولماذا& يحتاج المسيحيون إلى موافقة لاقامة القداس في دولة علمانية؟ كما جاءت الالتفاتة في غير وقتها. ففي هذا العام، عام الذكرى المئوية للابادة الجماعية التي تعرض لها الآشوريون ـ جزء من الفاجعة التاريخية نفسها لإبادة الأرمن واليونانيين ـ زاد المعترفون بوقوع فظاعة ما، كصوت البرلمان الأرمني وصوت البابا نفسه، الذي أغضب انقرة باستخدام مصطلح "إبادة الجنس"، في الاشارة إلى ابادة الأرمن، إلى جانب ذكره المجازر التي ارتُكبت بحق "الآشوريين والكلدان".

لكن مار ساكو اكتفى، خلال كلمته في تركيا، بالاشارة إلى قتل معتنقي مذهبه على أيدي الأتراك والأكراد قبل قرن. وإذ ذكر المكونات التي ادَّعى انها كانت متعايشة سلميًا في تركيا، فاته أن يذكر المكون "الآشوري". وبذلك، يواصل البطريارك تقليدًا عريقًا يتمثل في عداء البطاركة الكلدان والسريان الارثوذوكس للهوية القومية. وهذه الهوية وحدت أتباع الكنائس السريانية المتجانسين إثنيًا، ممن عاشوا في منطقة متصلة جغرافيًا حتى حصول الإبادة الجماعية، ويتكلمون لغة واحدة يشيرون فيها إلى أنفسهم على انهم "سورايا"، وهي مرادف آخر للاسم الذي كان الآشوريون القدماء يطلقونه على أنفسهم.

مصدر المشاكل

تحدث مار ساكو عن النزعة القومية فوصفها بأنها "مصدر كل المشاكل في المنطقة". لكن البطاركة المسيحيين الشرقيين رضخوا طويلًا لحكم المستبد ذي الشارب أو الدولة الغاشمة والعسكر في هرم السلطة (مع الله وحده حليفهم في السماء التي تعلو رؤوسهم). وصادرت الدولتان، العراقية والسورية، بايديولوجيتهما العروبية الكثير من قيم وتنوع الحياة الإثنية والاجتماعية والمحلية من دون أن تقدما إلا الوحدة القسرية وسراب الأمن. ونضال المكونات "المسيحية السريانية" لتأكيد وجودها بصورة مستقلة في مواجهة انهيار هاتين الدولتين أماط اللثام عن فشل هذه الصيغ والأفكار التي تكمن في أساسها.

ولا يقتصر صعود الدين قوةً في العراق، ومعه حتمًا صعود الطائفية، على المسلمين وحدهم. ففي اطار النظام السياسي الذي اكتسب طابع الغيتوات الدينية في العراق، يتمثل المسيحيون بكتلة مستقلة، لذا اعتُبر من الطبيعي أن يتحدث مار ساكو، رئيس أكبر كنيسة في العراق، باسم جميع "المسيحيين العراقيين" في الأمم المتحدة في آذار (مارس) الماضي.

متنازع عليها

لكن نفور ساكو من النزعة القومية لا يشمل العراق. وفي العام 2009،عارض مار ساكو خطة تشكيل محافظة في سهل نينوى، المنطقة الوحيدة من العراق التي للأقليات "أكثرية سكانية" فيها. وقد اسفرت تصريحات غبطته غير المؤيدة لإعلان سهل نينوى “منطقة متنازع عليها“ إلى اعاقة تلبية الاحتياجات السياسية وفي مقدمتها تحقيق الأمن المستمد محليا من ابناء المنطقة.

تبدّى هذا بشكل ساطع حين انسحبت قوات البشمركة الكردية من عمق الأراضي الآشورية قبل ساعات على دخولها في صيف العام الماضي، وبذلك إجبار نحو 150 ألفًا من سكانها على الفرار. ورغم الحقيقة الماثلة في أن مشروع سهل نينوى طُرح بأمانة ومثابرة في اطار الدستور العراقي (وهو موقف بالكاد يصح على افعال الآخرين في العراق) فإن ساكو سعى إلى تصوير أي محاولة لزيادة درجة الحكم الذاتي الذي يُمنح لسكان المنطقة على انها محاولة خطيرة لاقامة "غيتو مسيحي"، من شأنه أن يسبب نزاعات طائفية ودينية وسياسية لا تنتهي، وهو وصف دقيق لوضع العراق منذ العام 2003، من دون وجود محافظة في سهل نينوى. وفرض مار ساكو نفسه الان احد الدعاة إلى توفير حماية دولية للمناطق ذاتها التي أُفرغت من سكانها بسبب إخفافات الحكومتين العراقيتين.

فشل سياسي

وقد ربط نيافته افراد طائفته بالسيادة العراقية وبشبه السيادة التي تتمتع بها حكومة اقليم كردستان. لكن خلال الأسبوعين الماضيين، أبدت تركيا استخفافًا صارخًا بتلك السيادتين حين قصفت اهدافًا لحزب العمال الكردستاني في شمال العراق. وفي مجرى العملية، أُجبر كثير من الآشوريين على الفرار من قراهم. فكل لاعب كبير ينتهك حدود الدولة وسيادتها في محاولة لحماية مصالحه أو توسيعها. أما المسيحيون في العراق، فهم الاستثناء البارز الوحيد.

مع إنكار الهوية الإثنية، يأتي نفي السياسة المجدية. ومع إنكار التاريخ يأتي نفي محاولة تأمين المستقبل. ولا يكمن الفشل في مار ساكو وحده وهو الذي تنسجم افعاله مع موقعه ودوره، بل ينسحب على الأحزاب السياسية الآشورية التي ناضلت في ظروف الاستبداد لنيل حقوقها الإثينة والقومية في عراق حر، لكنها تختار الآن ألا تمثل إلا نفسها، سواء بأسماء مذهبية أو تحت راية المسيحية.

وها هي الأحداث المدمرة التي وقعت قبل قرن تعيد نفسها والآشوريون يواصلون نزوحهم الذي لا يبدو أن له حدودًا من العراق، وتدمير المسيحية العراقية يستمر بلا هوادة، والآشوريون يجدون أنفسهم بلا معين يسندهم سوى دينهم بعدما خذلتهم الدولة وباتت الحاجة ماسة إلى قيادة آشورية.