&فجر الحياة البشرية، يعش الإنسان موزعاً بين الخوف والطمأنينة. يخاف من قوة أقوى منه، أياً كان شكلها أو جوهرها أو طبيعتها أو ماهيتها، ويحتمي بقوة أقوى منه بالضرورة ليجد في ظلها الأمان والطمأنينة، حتى لو كان ذلك بثمن قبوله بالعبودية والخضوع والتخلي عن الحرية. وهاتان القوتان غير موجودتان في حقيقة الأمر، بل أوجدهما عقل البشر ذاته ورمز لهما بالإله والشيطان. فكلما وضع الإنسان في هذا الإله، المختلق من مخيلته، من أشياء وتصورات، كلما فقد ما يحتويه في ذاته. وفي الحالتين يخوض الإنسان معركته الخاسرة في إطار صيرورة آيديولوجية سماها " الدين" وبالتالي فإن البؤس الديني ما هو إلا انعكاس لبؤس الواقع الذي يعيش فيه الإنسان، ومن هذه المقاربة قال كارل ماركس مقولته الشهيرة " الدين أفيون الشعوب" لأنه مصدر التخدير والتغييب عن الواقع الحقيقي الذي يعيش فيه البشر ويعانون منه.

ماهي حقيقة الدين؟ وكيف نشأ في المجتمعات البدائية وكبلها، ومن ثم تطور في المجتمعات المتحضرة وسيطر عليها، عندما تحول إلى آيديولوجية للطبقة المهيمنة؟ يقدم الدين نفسه للكائن الذي اختلقه من عقله الباطن وكأنه مملكة الأفكار المستقلة عنه، والموجود بعيداً في الأعالي، فوق مملكة الأرض الخانعة والضعيفة والعاجزة عن البقاء والديمومة بدون إذن وموافقة ومساعدة المملكة السماوية. وكل الأديان التوحيدية أو السماوية تدعم وترسخ هذا الوهم وهذه الأطروحة في أذهان الناس بمختلف مشاربهم وأجناسهم وأعراقهم. وغالبا ما كانت الهئيات والمؤسسات الدينية المهيمنة على مصير البشر تلجأ للكذب والخديعة وتشويه التاريخ للإستحكام بعقول البشر وسلوكهم.

إن الخاصية التي يتمتع بها الدين وتميزه عن باقي الآيديولوجيات الوضعية، هو كونه إنعكاس مهول وخادع في الوعي الاجتماعي، ونمط العلاقات بين بين البشر فيما بينهم من جهة، وبين البشر والطبيعة من جهة أخرى. وذلك لأن البشر، سواء في المجتمعات البدائية، أو المجتمعات المتحضرة المنقسمة إلى طبقات، يتواجدون تحت هيمنة جهة خارجية غير مرئية تتمتع بقوى خارقة لايعرفونها ولايستطيعون تدجنيها وبالتالي يخشونها على نحو غامض، وهذا الخوف هو الذي قاد إلى انبثاق فكرة الآلهة في عقول البشر. فالدين ماهو إلا وعي وشعور خاص بالبشر صاغته أدمغتهم وعقولهم لتنظيم العلاقة مع الطبيعة التي يعتمدون عليها في استمراريتهم وبقائهم بما فيها من متغيرات " مناخية على وجه الخصوص" تتحكم في مصيرهم.

فمثلما كان الكائن البدائي، في العصور القديمة، عاجزاً عن قهر الطبيعة وفهم ألغازها، عاشت الطبقات الضعيفة والمسحوقة والمستغلة حالة عجز أمام من فرضوا أنفسهم كظل للسلطة الإلهية على الأرض" ملوك وكهنة ومؤسسات دينية"، ولجأ الناس إلى الإيمان بحياة أفضل بعيدا عن الأرض، في السماء وفي الجنة الموعودة، من خلال الاعتقاد بالآلهة والأرواح والشياطين والمعجزات والخرافات والكائنات الخارقة للطبيعة.

إن ظهور فكرة إله خلق العالم وحكمه بجملة من النصوص والضوابط، وخلق الروح السرمدية الأزلية والأبدية الخالدة التي لاتموت، لكي تبقى في خدمته، بعد أن زرعها في جوهر الكائنات المادية المخلوفة والفانية، لإدامة العلاقة بين الروح الجمعية وخالقها إلى يوم البعث والقيامة، ليست مجرد فكرة تجريدية، أو افتراضات ومضاربات يمكن لمن لايصدقها أو يعتقد بها أن يستخف أو يستنهين بها. فلو كان العالم يقاد من قبل الإله، فإن النظام الموجود على الأرض يجب أن يكون مصاغ من قبله، وأثر من آثاره وإنعكاس لحقيقته، لذا يجب أن يطاع ويحترم، فمالداعي أن يكلف أحداً غيره لفرضه وتطبيقه حيث لن يكون هذا التطبيق والتتخويل نموذجياً ومتكاملا ومعصوماً عن الخطأ نظراً لطبيعة الوسيط الناقصة التي لاتتمتع بالكمال الإلهي، خاصة وهو يعلم ما يعني ذلك أي استحالة تطبيق العدالة الإلهية؟. ومن هناك يتساءل الكائن الواعي والذكي، ويطرح على نفسه هذا السؤال الوجودي والجوهري: إذا كانت الروح البشرية هي الوحيدة الخالدة والجسد هو الفاني فقط، فلماذا الاهتمام بالحياة الراهنة على الأرض وهي ليست سوى نقطة لامتناهية في الصغر والأهمية في محيط اللانهاية؟ ما أهمية السعادة الأرضية المحدودة زمنياً إزاء السعادة الأبدية التي يمكن للبشر الحصول عليها في الماوراء، أي في العالم الآخر؟ وفي هذا السياق المفهومي، صدق الإنسان إن القائمين على العبادات والطقوس والمعتقدات الإلهية على الأرض يعرفون الطريق نحو السعادة الأبدية الدائمة لأنهم مفوضون من قبل الإله المقيم في العلالي في أن يمثلوه لدى البشر ليقودوا الناس نحو الله، وبالتالي ما علينا سوى أن ننصاع وننقاد لهلاء القيديسين والأنبياء والرسل والأئمة والكهان، وبخشوع وطواعية ليقودونا ويوجهونا كما يريدون. من هذا المنطلق تمكن رجال الدين والمؤسسات الدينية من التحكم بعقول جموع المؤمنين وسوقهم في حلم طقوسي غامض بعد افتانهم بسراب عالم الغيب والماوراء وأفقدوهم القدرة على رؤية الواقع كما هو والتمعن فيه حيث لن يكون بمقدورهم الاعتراض حتى على الحياة البائسة التي يعيشونها والكوارث التي يتعرضون لها لأنها مفروضة ومكتوبة عليهم كنوع من القدر والامتحان لإيمانهم، ويتقبلون بيسر ما يملى عليهم، و ما تتمع به طبقة الكهنوت من امتيازات مادية أرضية تأتيهم من جهد وتعب وعمل وإنتاج ومعاناة المؤمنين ومساهاماتهم المادية المفروضة عليهم كزكاة وخمس وتبرعات وأضاحي وقرابين وعطايا دينية ملزمة، لأن ذلك يبدو لهم متطابقاً مع التعاليم السماوية التي يقدمها ويأولها لهم القائمون على المؤسسات الدينية المهيمنة. المستلبون لايمكنهم التفكير والشك والارتياب بحقيقة ونوايا هؤلاء المتحثون بإسم الرب ويستخدمون الدين وتعاليمه لتنويمهم وتغييبهم ومنعهم من الإحساس باللاعدالة وبالظلم الذي يتعرضون له والوعي بأنهم ضحايا ولديهم الحق بالتحرر من هذه الهيمنة والمطالبة بحقوقهم والتمرد على واقعهم المزري، وذلك خوفا من رميهم بتهمة الزندقة والهرطقة والانحراف والإلحاد وتعرضهم لعقاب الرب وبئس المصير ورميهم في جهنم أوالجحيم الإلهي، أي التلويح بأطروحة العقاب والثواب، حيث أنهم، وفي مقابل طاعتهم وانقيادهم وخضوعهم الطوعي، سينالون الثواب الأبدي في الجنة التي لايعرفون عنها سوى بعض المظاهرة والأوصاف التزويقية المغرية وإنهم سيجدون فيها الراحة الأبدية.

هناك منهجان للتعاطي مع العقل البشري ومخاطبته لتقديم صورة عن العالم والكون وتفسيرهما: الطريقة التي تقدمها الأديان بكل أنواعها ومسمياتها، مع ما يرافقها من خرافات وأساطير وغيبيات، والطريقة التي يقترحها العلم الحديث.

تؤكد الأديان على " حقيقة" شمولية ملازمة وثابتة وخالدة وكاملة لاتتزعزع ينبغي الإيمان بها وتقبلها كما هي على علاتها دون نقاش أو إعتراض، تتعاطى مع الطبيعة والإنسان والكائنات الحية، وتصيغ رؤيتها الدينية عن هذه " الحقيقة" التي تفترضها مطلقة لايمكن المساس بها. فيما يقترح العلم سيناريو جزئي مؤقت قابل للتطور والتعديل والتغيير وفق معطيات التقدم العلمي والتكنولوجي والنتائج المختبرية والتجريبية وتراكم المعلومات الناجمة عن الرصد والمراقبة والمشاهدة، وفي هذا السيناريو لا يمثل الإنسان سوى عنصر من عنماصر الطبيعة وأحد نتاجاتها.

نشأ صراع بين المنهجين ومنافسة شرسة امتدت على مدى قرون طويلة تخللتها مآسي ودماء وضحايا من أجل تقديم رؤية مقنعة تدحض الآخر وبالتاالي احتل المنهجان نفس الحيز. كان للدين الغلبة والهيمنة على عقول البشرية لقرون طويلة فارضا على البشر حقيقة لاغنى عنها، حتمية وضرورية ولايمكن تجاوزها. واليوم هناك استمرار لهذا الصراع الذي اتخذ هيئة الحرب مع الهجمة الإرهابية المتشددة والمتوحشة والإجرامية التي تشنها العصابات الدينية المتشددة والمتطرفة والتكفيرية ضد التفكير الحر، وهناك انطباع لدى الكثير من البشر على الأرض أن تحولاً قد طرأ على نمط التفكير الجمعي وإن العلم هو المنتصر على الفكر الديني التقليدي حيث احتل العلم مركز العالم أو على الأقل قلب الحضارات المدنية المعاصرة.

نعيش اليوم في عصر يسود فيه العلم ويؤثر في سلوك البشر وفي حياتهم اليومية في كافة المجالات لكنه يواجه في نفس الوقت ردة فعل عنيفة تتمثل في عودة الوعي الديني بقوة التي تعترض تقدمه وتنتقده، بل وتتهمه بكل السلبيات والمآسي التي يعاني منها البشر اليوم كعدم الانضباط النفسي والتحلل الأخلاقي وتدمير البنية العائلية وطمس التقاليد والعادات والأخلاق الحميدة وإشاعة الإلحاد والفوضى. يلجأ المتدينون إلى ذريعة أن العلم بات يهدد مصير البشرية من خلال أسلحة الدمار الشامل بالرغم من المكاسب التي حققها لها على صعد أخرى. نجح العلم في أن يزيل السمة التقديسية عن أحداث وشخصيات التاريخ، وأطاح بمسلمة دينية تقول أن التطور الكوني خال من أي معنى في ذاته. ولعدم قدرتها على التصدي والمنع كما كانت في الماضي، و لا حتى التأقلم والتكيف، بدت الأديان وكأنها تترنح وتتراجع أو تتقهر على أرضية التفهم والإقناع الجمعي، ولكن في نفس الوقت هناك تقلص في الممارسات والطقوس الدينية، خاصة في المجتمعات المتقدمة والمتطورة مادياً وصناعياً وعلمياً واقتصادياً. في حين نشاهد في المجتمعات الفقيرة والمتخلفة صناعياً واقتصادياً وعلمياً حالة من الانطواء على الذات وعودة قوية للإحتماء بالدين لحاجتها إلى نوع من الاعتقاد والإيمان حيث استغلت الأديان القائمة هذه المفارقة للعودة إلى طرح العقائد والمسلمات الغيبية القديمة كبديل حتى لو اتسمت بالجهل ذو الظاهر التقي والنقاء الروحي.

الذي يهدد المجتمعات المعاصرة اليوم هو النزعة الأصولية والتكفيرية المتعصبة وغير المتسامحة التي لا تقبل الآخر. فالتشدد والتعصب الديني يطمح إلى الهيمنة على العالم بالقوة والترهيب والعنف والتخويف والقتل والتشريد والتدمير والتخريب واللجوء إلى الأساليب البربرية المتوحشة والمقززة التي تثير الرعب في القلوب لاستئصال التفكمير العلمي وسحق الحرية والجمال ومصادرة حرية الاختيار والمعتقد وتدمير التفكير العلماني والعقلاني الذي يشيع في المجتمعات الغربية اليوم. وهناك طوائف دينية منحرفة ومنشقة عن التيار الديني التقليدي تبشر بعلم مزيف تدرجه في سياق مفردات وآليات معتقدات دينية جديدة غريبة وما ورائية وخطيرة موجهة ومقصورة على فئات معينة حائرة وضائعة بين العلم والاعتقاد الديني التقليدي، تبحث عن خلاص وعن معنى لوجودها. خرج العلم منتصرا رغم المعارك الطاحنة والدموية التي خاضها ضد الدين بيد أن ذلك لا يمنع من تكرار مرحلة محاكم التفتيش السيئة الصيت التي وسمت الكنيسة الكاثوليكية في القرون الوسطى، والتي يمكن أن تحدث اليوم في أمريكا ودول العالم الثالث كالسعودية وباكستان وأفغانستان وإيران، و كما نراها تحدث اليوم، وعلى نحو بشع، في المناطق التي تسيطر عليها داعش والقاعدة وأمثالهما. لقد انهارت الأديان في الغرب لكنها تغولت في العالم الثالث ومنه العالمين الإسلامي والعربي. بيدأن تقهقر الدين لايعني تراجع فكرة وجود الإله الخالق والمهيمن.

بسبب بنيته ومنهجيته وطبيعته، استبعد العلم " مفهوم الله" من حقل نشاطه ومجال عمله، بعبارة أخرى يرفض العلم أن يدخل في صميم تفسيره للعالم والوجود، قوة خارقة إسمها الله. وفي نفس الوقت ليس بوسع العلم ولا بمقدوره أن يثبت وينكر وجود الله فهذا لا يقع في مجال اهتمامه ولا من صلب غاياته وأهدافه. من هنا وجد البشر أمامهم إلهين متميزين وهما: إله الأديان وإله الأكوان.