&بعض مراكز الدراسات والأبحاث العلمية عمدت، ولا تزال، إلى فهم الطريقة التي فُطر على أساسها الإنسان، وإلى مقاربة عقله وطريقة تفكيره منذ نعومة أصابعه، فيلجأون مثلًا إلى اختبار مجموعة من الأطفال الذين لم يبلغوا بعد سن التنقل على قدمين، ثم يستحضرون مشهدية الخير والشر ضمن دميتين تعمد إحداهما إلى إيذاء الأخرى والإعتداء عليها بشكل واضح، بعدها يُترك الخيار للأطفال موضع التجربة. الملفت أنهم جميعًا تعاطفوا بشكل أو بآخر مع الضحية، واستطاعوا، بطرق متعددة، أن يظهروا انحيازهم الجليّ إلى جانب الخير المطلق، أو لنقل، الى ما يعتقدون أنه كذلك.

في النسق التقليدي والطبيعي لمعارك الخير والشر هناك منتصر حتميّ، قد يُصاب المنتصر برصاصة تبعد بعض السنتيمترات عن قلبه أو دماغه، لكنه سيحظى بنصر أكيد في نهاية المطاف، ولهذا النصر تجليّات لا تقتصر على تداعياته الملموسة وإفرازاته المباشرة وحسب، بل تتعداه إلى وجدانية جماعية لا لبس فيها، حالها حال يقين لا يرقى إليه الشك، أو لا يهزّ بنيانه أي ارهاصات أو تبريرات تحاول تخفيف الجرم عبر إغراقة بكم وافر من التضليل أو الأسباب الموجبة.

ميشال سماحة لم يكن خارج هذا الإطار، صحيحٌ أن مشهدية الأمس تبدو غير مألوفة أو مُستساغة، لا سيمّا لجهة انتصار منظومة شريرة على حقيقة تجلّت كقرص الشمس في وضح النهار، لكن حقيقتها بخلاف ذلك، فما حدث لا يعدو كونه تجسيدًا أكيدًا لمحصلة لا بد ستأتي مهما طال الانتظار.

عبث النظام السوري على مدى ما يقارب نصف قرن بهذا البلد الصغير، قتل من قتل وسجن من سجن وظلم من ظلم، كنا ندرك جميعًا بأنه الشر المطلق، وبأنه يقف خلف أي موبقة مهما كبرت أو صغرت، كان الأمر أشبه بيقين جماعي وبخلاصة لا تحتاج إلى بحث أو تدقيق أو أحكام مُبرمة، بحثنا طويلًا عن دليل واحد فلم نجد، كل الملفات فارغة، وكل التحقيقات لا تصل إلى أي نتيجة، لكن يقيننا لم يتغير، إنه الشر المطلق ولو أجمعت كل الدنيا على خلاف ذلك.

لم نكن نحتاج في معركة مماثلة إلى دليل، ولم نُفكر أساسًا بأن أحدًا يستطيع أن يصل إلى خلاصة قاطعة بالصورة والصوت، هدية ميشال سماحة كانت أكبر من قدرتنا على الاحتمال، وأكبر من أمنياتنا وأحلامنا في هذا الإطار، كل ما بحثنا عنه كان يتعلق بمسار طبيعي لمجريات الأحداث، وربطها إنطلاقًا من فهمنا لطبيعة هذا النظام وطريقة تفكيره وبرنامج عمله، لم نبحث يومًا على أدلة ملموسة لنثبت ما نعرفه ونحفظه وندركه عن ظهر قلب.

"هيك بدو بشار" قال ميشال سماحة، كلمة تكفي لنبلسم عبرها جراحنا منذ أول قطرة دم مرورًا بنزيف لم ينقطع، شعرنا يومها بالفرح، حالنا حال من يربح الجائزة الكبرى بعد طول مشاركة وطول انتظار، ثم راح يردد في خلده: نعم، لقد كنت أدرك بأنني سأربح، لقد شعرت بذلك منذ أمد بعيد، ميشال كان هذه الجائزة، بل وأكبر منها، وأكبر من أحلامنا ومن قدرتنا على الفرح وعلى الاحتفال.

بالأمس خرج ميشال من سجنه الصغير إلى سجنه الأكبر، هو يدرك جيدًا بأنه سيدخل التاريخ من بابه الأسود، وبأن حكايته ستتحول إلى قصة لطيفة نخبرها لأطفالنا قبل النوم، سنخبرهم بأن البطل قد يموت في 16 آذار من العام 1977، أو في 22 تشرين الثاني من العام 1989، أو في 14 شباط من العام 2005، سنخبرهم، بخلاف الروايات والأساطير، بأن البطل قد يتحول إلى قطع متناثرة على أسطح وشرفات المنازل، لكن الدم سينتصر على السيف في نهاية المطاف. & &&

سنخبرهم أيضًا بأن لبعض القتلة عيون جاحظة، لا سيما أولئك الذين يُقدمون على القتل بعقل بارد وأصابع لا ترتجف، بعضهم يذهب إلى حدود التحديق في عيون وعدسات البث المباشر غير آبه بما اقترفه، وبعضهم قد يذهب إلى تقديس مجرم هنا وتطويب قاتل هناك، بعضهم قد يطل علينا بربطة عنق ملوّنة بأزهى ألوان الحياة، فيما يرقد في حنجرته برميل متفجّر، وكوكبة لا تنتهي من الجثث والصراخ والعويل.&

كلمة شكرًا لا تفي ميشال سماحة حقه، لا سيما بعد إعلانه الأخير عن السير قدمًا في العمل السياسي، فهذا يُشعرنا بكم وافر من الغبطة والسعادة، نعم نحن نريدك أن تعود إلى ميدان السياسية، بل وأن تقود فريقًا برمته، نريدك أن تعود إلى الشاشات الصغيرة لتخبرنا عن المشاريع الاسرائيلية ومفاهيم المقاومة والممانعة، وأن تساهم في رفع وعينا تجاه المشاريع المشبوهة والهادفة لإشعال فتنة سنية شيعية، نريدك أن تعود بكامل حضورك ولغتك وأدبياتك، دعنا ننهل منك ومن عقلك الراجح، ودعنا نذّكر أنفسنا وأطفالنا مع اشراقة كل صباح بأنك مجرم صغير في محور ما برح يحاضرنا بالقيم والأخلاق والشرف. &