في مقولة يرددها الكل، إن البناء ليس بسهولة الهدم، ولكن ترديد المقولة شيء والفعل العراقي شيء اخر. ليست غايتي هنا ان أقوم بالدفاع عن الطبقة السياسية المتسلطة في العراق، فهي بحق طبقة طائفية، والطائفييون هنا ليسوا الشيعة فقط، بل الكل، ولكن اتهام الطبقة السياسية بالطائفية، لا يبيح لنا حقا، ان نبرئ نظام حكم عمل كل ما بوسعه من اجل إيصال الأمور الى ما الت اليه اليوم.

مناسبة الحديث هو ما تردد في الآونة الأخيرة، وهنا اقصد منذ بدء المظاهرات التي أقيمت كل جمعة، في ساحات المدن العراقية، من المطالبة بإسقاط الطبقة الحاكمة، كلها وبكل مؤسساتها، وما ارتفع وبثقل كبير بعد الجريمة النكراء في الكرادة في بغداد،وكان البعض يعتقد انه وبمجرد طرح شعارات ومطالب، ستتحقق له، وقد ركب السيد مقتدى الصدر الموجة، محاولا قيادتها لحد ان أنصاره تجأروا لاقتحام البرلمان وتدنيس القنفة المشهورة. وبالرغم من ان المظاهرات حق شرعي للمطالبة بمطالب يراها أصحابها مشروعة ومحقة، الا ان الضحك على أبناء الشعب، من أي طرف يعتبر مشاركة في ما نتهم به الطبقة السياسية، وان كان بصورة أخرى. وفي الحقيقة ان بعض الأكاذيب يمكن ان تنطلي على الناس وتدعم تحركا ما، ولكن الحقيقة لا بد ان تظهر يوما، والذي يدفع ثمن انطلاء الحقيقة عن الكذبة المسوقة هو الشعب كله، يدفعها من ثروته وعمر ابناءه.

عندما استولى حزب البعث على السلطة في عام 1968، استولى على السلطة السياسية بانقلاب عسكري، ولكن الدولة بمؤسساتها بما فيها الجيش وأجهزة الامن والشرطة والمؤسسات الخدمية كانت قائمة ولم تتاثر في لحظتها، وتغيير القائمين عليها حدث تدريجيا لحين القيام بتبعيث اغلب المراكز العسكرية والأمنية والاستراتيجية. أي ان نظام البعث لم يتولى دولة هرب جنودها وتفتت شرطتها، كما حدث في يوم 9 نيسان 2003. كما ان الانقلاب البعثي استلم السلطة بعد إعلانه منع التجول ومن كان يجراء على التجول كان سيقتل فورا. بما جعل عملية السيطرة على البلد سهلة.

لقد وفى النظام السابق بوعده، انه سلم البلد خراب ودمار، وهذا يدل على كذب كل مقولات التي تقول ان راس النظام اهتم يوما بمصير الوطن والشعب. فالنظام ومنذ بدئه الحرب العراقية الإيرانية، ادرك انه لم يعد له خيارات متعددة، فهو مخير بين الموت او البقاء على راس السلطة في العراق. لان جرائمه وموقف الدول الأخرى منه كانت واضحة وهي، انه نظام مجرم، وما العلاقات الا ضرورة الحفاظ على المصالح الخاصة. والحقيقة ان اكثر ما اضر العراق، ليس اهتراء بنيته التحتية، منذ بدء الحرب حتى السقوط، بل اخلائه من كل القوى المعارضة الحقيقية التي يمكن ان تنافس صدام في قيادة دفة السلطة، وهذا الاخلاء لم يشمل أعضاء الرؤى المختلفة، بل حتى من كان رفيق صدام في قيادة البعث، لقد رفع النظام شعار واحد، اما انا او فلا. فهل كان ذلك في مصلحة العراق والشعب؟ بالتأكيد أي نظام يعمل لاجل الوطن، يفكر بان الوطن باقي وهو زائل، ولاجل الوطن يجب ان تتوفر دائما بدائل سياسية تقوده في كل المراحل. ولكن نظام البعث، فكر ان انه العراق والعراق هو فقط.

هذا ناهيك عن ادخال العراق، في حالة انقطاع تام عن المجريات الدولية والتطورات السياسية والاجتماعية التي حدثت وتحدث في العالم. مما خلق بين العراقيين والتجارب العالمية السياسية بون شاسع، ان العراق كان كوريا الشمالية والبانيا، وان لم يكن معلنا، بسبب طرحه شعارات القومية العربية، وللمصالح الانية مثل دخوله الحرب مع الجارة ايران، التي كانت تحتم عليه الانفتاح قليلا ولو ضمن مقاييس محددة على بعض الدول العربية.

ما يدعونا ليكون طرحنا اقرب الى اليأس منه الى الامل، رغم ان الطغرائي قال من مئات السنين أُعَلِلُ النَّفْسَ بِالآمَالِ أَرْقُبُهَا مَا أَضْيَقَ العَيْشَ لَوْلَا فُسْحَةُ الَأمَلِ، ان المطروح وان كان إزالة الطبقة السياسية المتهمة كلها وبلا استثناء من قبل معارضيها وبالأخص من الطوائف التي فقدت بعض سلطتها، بالفساد والعمالة، لا يقدم بديلا حقيقيا بل البديل المماثل ولكن تختلف نوع العمائم والجبب ليس الا.

قد يكون السؤال من اين يبداء الإصلاح في العراق؟ من اصعب الأسئلة التي تواجه الإنسان العراقي، لانه بحق ليس هناك شيء لا يحتاج للإصلاح في العراق واولهم الانسان. والصعوبة لا تنبع من وضع عنوان معين كاجابة، كان نقول من نظام الحكم، بل من ان الإجابة تتطلب التنظير ووضع دراسات والاجابة على أسئلة عويصة تحدد ماهي الدولة.

منذ الثلاثينيات القرن الماضي والعراق لم يكد ينل استقلاله، علما انه لم يكن هناك تاريخيا بلد باسم العراق، ينبري الشاعر العراقي المعروف (معروف الرصافي) وينشد قصيدته المعروفة انا بالحكومة والسياسة اعرف التي يقول فيها (عَلَم ودستور ومجلس أمة... كل عن المعنى الصحيح محرف.أسماء ليس لنا سوى ألفاظها... أما معانيها فليست تعرف.مَن يقرأ الدستور يعلمْ أنه... وَفقاً لصكّ الانتداب مصنَّف). مبديا عدم رضاه عن الواقع ولو كان الامر وقف عند عدم الرضى لهانت الأمور ولكن هناك اتهام وتشكيك بالطبقة السياسية كلها معتبرا انها تمثل الاستعمار وانها تسرق العراق. لا بل ان انقلاب 14 تموز عام 1958 برر استيلاه على الحكم، لاسباب تتمثل بكون الحكومات تسير بمشيئة الاستعمار وان الطبقة السياسية فاسدة وتسرق البلد. واذا استثنينا رئيس الوزراء الزعيم عبد الكريم قاسم والرئيس عبد الرحمن محمد عارف ورئيس وزرائه البزاز فان اغلب رؤساء وزعماء العراق تطلخت اسمأهم بالسرقة والدكتاتورية والطائفية.

اذا مسألة الاتهام الموجه للطبقة السياسية الحالية، ليس بجديد، بل هو حالة معاشة في العراق، ولكن الجديد ومع النظام التعددي وامام توفر وسائل الاتصال الاجتماعي والانفتاح على العالم، هو القدرة على قول الاتهام علانية ودون مخاوف جدية من ذلك، فالخوف اليوم يكاد ان ينحصر ببعض معارضي الحكومة اكثر من الحكومة أمثال داعش وبعض المليشيات الشيعية الأخرى. حالة عدم الرضى من الوضع قائمة منذ قيام العراق، والعلاج يتطلب دراسة الإخفاقات والجرأة في وضع اليات جديدة لبناء واقع جديد، يمكن من خلاله بناء عراق جديد.

لا اعتقد ان ما يطرح الان في بازار السياسية العراقية، سواء على المستوى الوطني او حتى على مستوى إقليم كوردستان، هي طروحات جدية، بل كل ما يطرح هو عملية لخبطة ان صحت الكلمة، لارضاء الذات او لخداع الشارع، باعتبار ان طارح مطالب الإصلاح قد قام بواجبه ليس الا.

فهناك دعوات الى الغاء الدستور و استقالة المجلس الرئاسي وحل مجلس النواب واستقالة مجلس الوزراء، أي ان البلد سيكون فارغا وكل قرار فيه سيكون غير شرعي، الا اذا شكلنا مجلسا عسكريا يعلن الطوارئ ويوقف العمل بالدستور، أي انقلاب عسكري، ولكن الامر ليس بالسهولة التي تتراى لرافعي الشعارات، فالجيش علاوة على انه لا يملك القوة وقيادة مركزية يمكن ان تحركة حسبما تشاء، فانه متهم أيضا بالفساد. هذا ان تناسينا ان هذا الجيش لا وجود له في إقليم كوردستان وبالتالي فان أي انقلاب عسكري سيكون تكريسا للانقسام الذي يرفضه المعارضون اكثر مما هو حل

لنتسأل اذا كانت كل قيادات العراق اما دكتاتورية او حرامية، ولم يخرج منها الا النفر النادر جدا، وقديما قيل لكل ظاهرة شذوذها، أي لو اعتبرنا السياسيين العراقيين اللذين لم يتطلخ اسمهم بالسرقة والدكتاتورية شذوذا عن القاعدة، لكنا امام ظاهرة تخالف كل التوقعات وهي ان المسؤولين في حقيقتهم كلهم يجب ان يسرقوا وان يمارسوا العنف لكي يبقوا. وهو استنتاج يخالف ان لم نقل يصدم الحس الإنساني السليم وما وصلته النظم السياسية ومستوى الحريات التي يتمتع بها المواطن.

في الجملة السابقة انهيناها بكلمة المواطن، وهي كلمة مستمدة من الوطن، وهنا بيت القصيد او احد المفاتيح الأساسية لبناء بلد مستقر وامن ولا يسود فيه هذا الكم الهائل من الاتهامات ولمدى طويل ودون ادلة في الغالب. لنتساءل هل حقا العراقيين مواطنين، بمعنى هل انهم امام القانون وامام منفذ القانون على درجة واحدة. ام ان هناك اختلاف في التعامل معهم. بالتأكيد سنجد وان كان القانون وخصوصا في المرحلة الأولى من تأسيس العراق، قد ساوى بين الجميع، الا ان تنفيذ القانون شابه الكثير من التمايز لاسباب عرقية او دينية او طبقية. وهذا التماييز كان شائعا، وكانه كان امرا مسلما به، لانه جزء من تراث المنطقة التي كانت مقسمة سلطويا على المذاهب والطوائف وكان الدين الإسلامي فيها والمسلمون هم في السلم الأعلى، ويتبعهم الاخرون.

هناك شرخ كبير في مفهوم الوطن والمواطن، لدى العراقيين، وقد ساهم ليس فقط التراث السياسي والقانوني للمنطقة في تشويهه، بل الأيديولوجيات التي شاعت في المنطقة ومنها الأيديولوجية العروبية، التي ربطت العراق بالسعودية كمثال، في حين نظرت الى ايران او تركيا كاعداء، لان السعودية عربية والاخرتان اعجميتان، وهذا الامر لم يكن في مجال السياسية الخارجية بل صاغ السياسية الداخلية ووجهها. فالعراق والعراقيين وحقوقهم وتطلعاتهم، كلها مؤجلة التنفيذ لحين تحقيق حلم العروبة، في تحرير فلسطين وإقامة الوحدة العربية. واذا لاحظنا إشكالية الخلاف بين الناصرية والبعث ولو نظريا، لوجدنا ان الناصريين أؤكد نظريا قد قالوا بالحرية والوحدة والاشتراكية في حين ان البعثيين قالوا بالوحدة والحرية والاشتراكية، أي ان الناصريين قالوا باولية الحرية، ولكنهم لم يقصدوا الحريات الفردية بل الحرية من الاستعمار. في حين قال البعثيين باولية الوحدة ومن ثم تحقيق الحرية والاشتراكية، ولكن قبل كل هذا كان مطلب تحرير فلسطين يجب ان يتحقق لتسير الامة نحو تحقيق بقية شعاراتها. والمفارقة الأعظم ان الدول العروبية او الأكثر انتشارا للشعارات العروبية فيها، هي التي زودت إسرائيل بالسكان اللازمين لكي تتمكن من ان تتقوى وان تصارع وان تقاتل وان تمسك الارض، من خلال قوانين جائرة لم تراعي حرمة المواطن، حيث تم تهجير مئات الالاف من يهود العراق ومصر وسوريا، وتم حجز ممتلكاتهم واموالهم واسقطت عنهم الهوية الوطنية، رغم انهم كانوا اقدم من حملة الأيديولوجية العروبية في هذه البلدان.

واليوم يكاد الامر يتكرر مع الأيديولوجية الاسلاموية وبنفس التفاصيل، وان حلت ايران او تركيا محل مصر والجزائر او غيرها من البلدان التي سميت بالعربية. فكل الأمور مؤجلة لحين تطبيق شرع الله وشرع الله لمن لا يعرفه، انه حتى الله نفسه باعتقادي لم يعد يعرفه، لان لكل مذهب مشروعه الخاص لشرع الله لا بل لكل شخص مفهومه الخاص لهذا الشرع.

ما يقدم للناس كحلول، كما قلنا هي حلول ترقعية، وغايتها كسب الناس وليس إيجاد حلول جذرية تعالج الحالة. بل تحويل الناس المرهقة والمتلهفة لاي حل، الى قطيع يحسب على الزعيم السياسي. فكما قلنا ان اسقاط الرئاسات والدستور ليست حلول أصلا، بل تدخل في ادخال البلد في حروب أهلية معلنة، لانه يصعب تهيئة ظروف عام 2004 لصياغة دستور جديد، ناهيك عن الاشتراطات التي وضعت سابقا لتعديل او تغيير الدستور.

ومن الشعارات التي رفعها البعض، وكانت مفارقة حقا، تزويد العراقيين بالكهرباء مجانا، واساسا العراقيين يشكون من ندرة الكهرباء. وتوزيع موارد النفط على الناس، يعني حقا، لملوم الشعارات التي تدغدغ مشاعر الناس ولكنها بالنهاية لا شيء.

الحل باعتقادي يتطلب تشكيل حكومة سياسية قوية، من أناس يمكن الوثوق بهم وبنزاهتهم، وهذا الوثوق يجب ان لا يكون على أساس حزبي او مذهبي او ديني، بل من خلال تشكيل مؤسسة اتحادية يتمثل فيها كل المكونات العراقية بتساوي، لان غايتها لن تكون تشريعية او تنفيذية، بل تراقب نزاهة البرلمان ومجلس الوزراء وكل مؤسسات الدولة، ورغم ان هذا هو واجب البرلمان، ولكن لان البرلمان في المرحلة الراهنة متهم، ولا يمكن تعديل مزاج الشارع بين لحظة وأخرى، وانني على يقين ورغم كل الشكاوي والمظاهرات فان الشارع سيعود لانتخاب الأقرب اليه مذهبيا، لاسباب تاريخية وللغبن التاريخي الذي يستشعر به كل المكونات. من هنا من المفترض ان تكون المؤسسة مؤتلفة من أناس ينظر اليهم على نطاق واسع انهم وطنيين ونزيهين ويتحلون بالجراة اللازمة لقول الحقيقة كما هي، لان غايتهم اعلاء شان الوطن. وان يتوزع العدد مناصفة بين الرجال والنساء ومن كل المكونات. وان تمتلك هذه المؤسسة حصانة لقول ما تريد قوله،، دون ان يتعرض أعضاءها الى تهديد ومن أي نوع، وان تكون محمية من كل مسألة وبضمان كل الأحزاب والتنظيمات العراقية.اعتبار العراق وحدة واحدة، مصالحها تنبع من مصالح كل ابناءها، وسياستها الخارجية لتحقيق هذه المصالح، ولتحقيق هذا الامر يعتبر العراق نفسه بلدا محايدا من صراعات المنطقة بكل أنواعها، ويقيم علاقاته على أساس الجوار الطيب مع الجميع، دون ان يتدخل في شؤون أي بلد او ان يقبل أحدا ان يتدخل في شؤونه الخاصة. ابعاد الدين عن التاثير في الشأن السياسي، والايمان بان الحرية هو الخيار الأمثل لكي يقوم المواطن بما يراه صائبا، لا بل لكي تكون خياراته صائبة، ان محاولة وضع الدين كرقيب على الحياة اليومية، سواء في الحياة العامة او الخاصة، يعني الانتقاص من أهلية المواطن وصحة خياراته بالتالي عدم العمل بالدستور الذي ينص على ان المواطنين سواسية امام القانون ويحدد سن البلوغ بالثامنة عشر. ان الالتصاق بالدين، هي عملية الاستيلاء على الحرية الطبيعية للإنسان، والممنوحة من الله والتي يجب ان لا يسمح لاي احد ان يسلبها من الانسان، بواسطة الله نفسه من خلال الدين وتفسيراته واياته. وهو من جهة أخرى ولكن بصورة غير معلنه او مفسرة، خوف على الدين، المفترض انه من الله، من الانسان وتطلعاته ووضع البعص انفسهم اوصياء على الدين.

اغلب الأمم بدأت الإصلاح بالتعليم، ونحن في العراق سفهنا العلم والتعليم مع الأسف، وصار مفهوم العلم والعلماء وكانه مقصود على بعض رجال الدين، ممن يدعون العلم بكل العلوم، ولكنهم في الحقيقة قد لا يصمدون امام خريج متوسطة، لو منحت له حرية القول والكلام. والاهتمام بالتعليم يبداء من المدارس وصفوفها، ومن المعلم ومستواه الفكري وقدرته على الابداع وقول الحقيقة، وليكن بديل تعليم الديني في المدارس هو تعليم الاخلاق.

إن العراق سائر في طريق واحد إن بقى على مساره الحالي وهو التفتت والزوال، إذا ليس لشعبه و له من خيارات، سوى الاخذ بمسببات البقاء. فهل يفعل؟

&

[email protected]