ربما لو نجحت المحاولة الانقلابية على رجب طيب إدوغان يوم الجمعة الماضي 15 يوليو 2016 لكان الأمر أفضل لتركيا، فشلها يدخل البلاد في حالة من الفوضي تمتد لعدة اشهر وقد تنتهي باغتيال إردوغان، واقصاء حزب العدالة والتنمية عن السلطة.

&قبل نحو أربعة قرون وتحديدا في 12 سبتمبر عام 1980 حدث إنقلاب من قادة الجيش بزعامة "كنعين إيفرين" والسبب حماية مباديء الجمهورية التركية كما وضعها "كمال اتاتورك" واعتقادهم أن سبب التراجع هو الارتباط بالدول العربية والسلفية المؤمنة بالقضاء والقدر.&

تركيا الآن تحت قيادة "أردوغان" يحكمها نظام سلطوي يرغب في تكريس كل السلطات في يده حتى بتغيير الدستور، والتحول من نظام برلماني تكون فيه القوة لرئيس الوزراء إلى نظام رئاسي تكون الغلبة فيه للرئيس، أراد أردوغان تقليم أظافر الأكراد الذين باتوا عائقا أمام طموحاته في السلطة المطلقة، فاطلق عليهم الجيش، الجيش التركي الآن انكسر وظهر جنوده وضباطه عراة أمام الكاميرات،ومطروحين أرضا على مرأى من العالم، وهو الجيش الذي دأب أردوغان على اعطائه الضوء الأخضر لشن حرب ضد الأكراد وحزب العمال الكردستاني، والنتيجه مئات القتلى جنوب شرقي البلاد، اعتقد كثيرون أن أردوغان نجح في ترويض الجيش وإبعاده عن السياسة، ومد جسور من علاقات المصالح مع بعض قادة الجيش لتعزيز نفوذه أمام القوميين الاتراك، ظن أردوغان ان الجيش اداة مهمة تقف بجانبه عند الحاجة في ظل تزايد المعارضين له في الداخل والخارج، في نفس الوقت كان يخشي قوة الجيش، وصور له المقربون أن المارد الذي يحاول ركوبه قد ينقلب عليه بعد المعاملة الفظة تحت حكم حزب العدالة والتنمية فيكون أكثر شراسة في الانتقام.&

ولا ينسى الجيش التركي أبدا من يهينه، وهو الذي كان له اليد الطولى في حكم تركيا على مدار عقود، و نفّذ أربعة انقلابات عسكريّة م، وأجبر الساسة على التنحي، لأنه يرى نفسه الحارس الأوحد للديمقراطيّة العلمانية، لا يخضع للمُسائلة، ولا يستجيب للضغوط، ولا يسمح بالإهانة، وصل حزب العدالة والتمنية إلى السلطة عام 2002، كان إردوغان رئيسا للحكومة منذ ذلك الحين شرع حزب إردوغان في تقليص نفوذ الجنرالات، وأبعدوهم عن ممارسة السياسة، باتت القوّات المُسلّحة التركيّة في حالة يرثى لها، ضعف وانقسام ظهرا واضحا في المحاولة الانقلابية الأخيرة.

لعب إردوغان في تقليص نفوذ الجيش على وتر تحقيق شروط الانضمام للإتّحاد الأوروبي، اتخذ كل الإجراءات لإخضاع الجيش للسلطة المدنيّة. وقلّص صلاحيّات المحاكم العسكريّة لمصلحة المحاكم المدنيّة، وعين القادة الموالين أو من يظن أنهم موالون له، تعرّض الجيش لضربة قويّة في أبريل 2007، بعد أن نشر على صفحته الإلكترونيّة إنذارا سُميّ فيما بعد بـ "الانقلاب الإلكتروني" حذّر فيه حزب العدالة والتنمية من مغبّة دعم عبد الله غول المعروف بانتمائه التقليديّ للتيار الإسلاميّ في انتخابات الرئاسة. تحدى حزب العدالة والتنمية وأنصاره هذا التحذير واوصلوا غول إلى سدة الرئاسة.

&لم يقف الصراع بين حزب العدالة والتنمية والجيش التركي فقد اتّهم الحزب بعض قادة الجيش بتدبير انقلاب ضدّ حزب العدالة والتنمية، واعتقلت حكومة إردوغان العشرات من الجنرالات والمئات من المسئولين العسكريّين المُتقاعدين. وقد تُوّج الصراع بين الحزب والجيش بالإستقالة الجماعيّة للمجلس العسكريّ التركيّ الأعلى في أواخر يوليو 2011، استقالة اعتبرها المراقبون آنذاك علامة فارقة على استسلام الجيش للمدنيّين.

تحسنت العلاقات بين أردوغان والجيش التركيّ على الأٌقل على مستوى القادة العسكريّين الكبار بعد تعيين نيسديت أوزيل، أحد الرجال المُخلصين لأردوغان، رئيسا لهيئة الأركان، أما ذوبان الجليد الحقيقي بين الطرفين فقد حدث عندما بدأ أنصار "فتح الله غولن" في القضاء فتح تحقيقات في قضايا فساد طالت عائلة أردوغان ودائرته القريبة من بينها تجارة نفط مع داعش، واستحواذ شركته " تشاليك غروب" الذي يديرها صهره "بيرات البيراك" على العقود الحكومية المتعلقة بالبناء والاتصالات، اما أبنه "بلال أردوغان" فيمتلك شركة نقل بحرية بي أم زيد وهي تعتبر شريكاً رسمياً لـ «باور ترانس» وتقومان بنقل نفط داعش المسروق من سورية والعراق وبيعه للخارج، ويستأجر بلال اردوغان في لبنان قسما من مرفأ بيروت.&

وحين خرجت رائحة فساد عائلة أردوغان رأى الجيش حليفٍا مُحتملا في الحرب على أنصار غولن،، تقدّم الجيش بشكوى يُطالب فيها بإعادة محاكمة العسكريين في القضيّة التي اتّهم فيها عشرات الجنرالات بتدبير انقلاب ضدّ حزب العدالة والتنمية. وألغت المحكمة القضيّة مدّعية أنّ الأدلّة كانت مُلفّقة، وحكمت بإطلاق سراح الضبّاط الذين سجنوا على إثرها. وبدأ شهر عسل جديد بين الجيش وحزب العدالة والتنمية مع حضور "خلوصي أكار" رئيس هيئة الأركان كشاهدٍ شرعيّ على عقد قران ابنة أردوغان.

عارض الجيش المحادثات مع حزب العمال الكردستاني. وطلب الجيش بتنفيذ 290 عمليّة عسكريّة واسعة ضدّ الحزب في ديار بكر جنوب شرقي البلاد لكنّ الحكومة أكتفت بثماني عمليّات فقط بعد انهيار وقف القتال 2014، لكن عودة القتال بين الحكومة والحزب في صيف 2015 مهّد الطريق لتحالفٍ أوثق بين الجيش والحكومة. وقد ساهمت الفوضى المنتشرة في سوريا والعراق والتوتّر الذي تصاعد مع روسيا في عودة الجيش كقوّة وسيطة في الداخل والخارج.، ولتفادي تصاعد نفوذ الجيش، اعتذر اردوغان لروسيا عن حادث اسقاط طائرة روسية في الاراضي التركية، وعاد الدفء للعلاقات مع إسرائيل.&

راهن أردوغان على أنّ هذه الإشارات قد تكبح جماح الجيش، لكنّه كان يلعب بالنار فإخراج الجيش من المشهد كليّا مسألة غير مُمكنة، وها هو ينتهز الفرصة ويحاول الاستيلاء على السلطة برمتها، فالكماليّة الأتاتوركية التي تُعدّ العقيدة المؤسسة للجمهوريّة جسّدت لعقود الحصن المنيع ضدّ الأسلمة والنزعة الانفصاليّة الكرديّة، ولا تزال تمثل الجوهر الأيدولوجي لمناهج التعليم في الكليّات العسكريّة.

عارض الجيش دعوة بعض الدوائر الحكوميّة لالتحاق خريجي مدارس” إمام-خطيب” –وهي مدارس متخصصة في العلوم الدينية يتخرج منها الدعاة والخطباء للالتحاق بالكليّات العسكريّة. ويعتقدّ الجيش أن هؤلاء الطلاب قد ينشرون الأفكار الدينيّة في المستويات المُختلفة للقوات المُسلّحة التركيّة وهو ما من شأنه زيادة نفوذ الحكومة على الجيش. ولا تزال الموازنة العسكريّة مُحصّنة من الرقابة المدنيّة، ورئيس هيئة الأركان لا يخضع لسلطة وزير الدفاع، ولا يزال قانون الخدمة العسكريّة الداخلي، والذي اُستخدم للسماح للجيش بالتدخّل في السياسة ساري المفعول. ويوضح القانون أنّ “مهمّة القوات المُسلّحة التركيّة تتمثّل في الحفاظ على وحماية الوطن التركي والجمهوريّة كما هو مُحدّد في الدستور”. وقد استند الجيش إلى هذا المادة كمسوّغٍ قانوني للانقلابات التي نفّذها في الماضي.

اعتمد الجيش دائما على الدعم الشعبي عندما قرّر التدخّل في السياسة. وقد كان انقلاب العام 1980 الذي يُعدّ الأكثر دمويّة في تاريخ البلاد، مثلا، يحظى بالدعم الشعبي من الجماهير التي رأت تدخّل الجيش ضروريّا لإعادة الاستقرار إلى البلاد. اليوم، يعرف الجيش بشكلٍ جيّد أنّ أيّ تدخّل ضدّ أردوغان وحزب العدالة والتنمية الذي نال حوالى 50% من الأصوات في الانتخابات الأخيرة سيحظى بالقليل من الدعم الشعبي وسيحطّم جهود الجيش لاستعادة موقعه في المجتمع، لذلك لجأ أردوغان الى الشعب لاجهاض الانقلاب وباتت السوشيال ميديا سلاحه الوحيد لدعوة الشعب للنزول الى الشارع، نفس السوشيال ميديا حظرها أردوغان بالأمس القريب ونكل بكل صوت ينتقده، وأغلق الصحف والمحطات الإذاعية والتليفزيونية، وأصبحت حكومة أردوغان أكثر استبداديّة، وفصل القيادة العامّة لقوات “الجندرمة”، وهي قوّات الشرطة الريفيّة شبه العسكريّة في تركيا، عن هيئة الأركان العامّة وضمّها إلى وزاة الداخليّة، تُعدّ محاولة لملء صفوف الدرك بأنصار حزب العدالة والتنمية وخلق توازنٍ في مواجهة قوّة الجيش وهذا ساهم في اجهاض الانقلاب، هذا فضلا عن تصرفاته المتقلبة بخصوص المسألة الكردية، وسياسته الخارجية العدوانية التي تركز على الشرق الأوسط أدت إلى نفور حلفاء تركيا الغربيين التقليديين وأثارت الامتعاض في صفوف القوات المسلحة.، ظروف كهذه ادت إلى الانقلاب على أردوغان وان لم ينجح فلا تزال فرص النجاح في اغتياله واقصائه وحزبه محتملة.