شهدت تونس عقب الدور الأول من الانتخابات الرئاسية ما وصفه المحللون السياسيون ب"زلزال سياسي" هز عرش الأحزاب التقليدية المتناحرة منذ اكثر من ثمانية سنوات. إن صعود كل من المرشح ،المعتقل ،نبيل القروي رئيس حزب قلب تونس، والمرشح المستقل قيس سعيد قوض كل المفاهيم التقليدية المتعارف عليها في التنظيمات السياسية الكلاسكية، اذ اعتمد كلا المرشحين خلال حملاتيهما الانتخابية على طرق و أدوات موازية للدولة و مضادة لما يسمى ب"السيستام" أي المنظومة. الأول رجل الأعمال نبيل القروي بالاعتماد على الأعمال الخيرية و ما يوصف ب"وعي البطون"، في حين اعتمد قيس سعيد وهو أستاذ جامعي مختص في القانون الدستوري على "وعي العقول" من خلال مخاطبة شباب الجامعات العاطل عن العمل بلغة المتزهد المتقشف المؤمن بالعمل السلمي النابذ للعنف و الرافض للنظم الحزبية التقليدية.

لم يكن ولوج ظاهرة التنظيمات المضادة بالمفاجأة لأغلب المتابعين للحياة السياسية التونسية، كانت فقط مفاجئة للسياسيين انفسهم الذين اعمتهم الزعاماتية المفرطة و راحوا يتناحرون وسط العائلة السياسية الواحدة أمام دهشة و غضب الناخبين. لم تصدق الأحزاب الحاكمة و حتى المعارضة توقعات مؤسسات سبر الآراء وعوض اخذها محمل الجد و دراستها و ضبط الترتيبات الضرورية لتجنب نتائجها ، راحت الأحزاب الحاكمة في تونس، و على رأسها حزب الحكومة "تحيا تونس" وزعيمه يوسف الشاهد و حزب النهضة "الإسلامي" وزعيمه راشد الغنوشي، في شيطنة هذه المؤسسات واتهامها بتزييف الواقع و توجيه الرأي العام.

اعتقدت هذه الأحزاب بحسب احد قيادتها الصحبي بن فرج، انه بإمكانها حكم تونس لمدة عشرين سنة اعتمادا على آلة الدولة و ذلك على أساس فرضية تذهب الى القول بأن الأحزاب الحاكمة يمكن ان تربح عشر نقاط كاملة حين تكون في السلطة.

جرت الرياح بما لا تشتهي أحزاب الحكم حين قرر التونسيون يوم 15سبتمبر معاقبة الحاكمين و منظوماتهم المتقادمة في تصويت عقابي لم يشهد له تاريخ تونس مثيلا. كانت نسبة الفقر في ارتفاع توازيا مع ارتفاع مؤشرات الفساد و منسوب العنف المجتمعي. تغييرات اجتماعية واقتصادية و سياسية هزت البناء المجتمعي لتونس وراح ضحيتها خاصة، الشباب و الطبقة الوسطى. للأسف، لم تلق هذه التغييرات و الأزمات اهتماما يذكر سواء من الطبقة السياسية ولا من نخبها وهو ما شجع على الصعود المدوي لقوى الممانعة والرفض بشقيها اليمني و اليساري المتطرف.

تاريخيا رافق صعود قوى "السيستام المضاد"l antisysteme، أزمات اجتماعية واقتصادية حادة الى جانب انحراف الطبقة الحاكمة و النخبة. حصل ذلك في المانيا النازية بصعود الأحزاب الفاشية و مؤخرا في الولايات المتحدة حيث ركز الرئيس الأمريكي دونالد ترامب حملته ضد "l establichment".

يعتقد الآن على نطاق واسع ان تشهد الانتخابات التشريعية المزمع اجراءها في 6 أكتوبر المقبل "لطخة كبر" للنظم السياسية التقليدية سوف تدق المسمار الأخير في نعش المنظومة. مفهوم اللطخة في اللهجة العامية التونسية تعني السقوط المدوي، و هي عبارة ساخرة تداولها التونسيون بكثرة قبل و بعد الدور الأول من الانتخابات الرئاسية تشفيا في الطبقة الحاكمة. الأهم من كل هذا ان الانتخابات التشريعية في تونس هي التي سوف تفرز تشكيل الحكومة التي تمتلك بيدها بحسب الدستور اغلب السلطات التنفيذية لإدارة الشأن العام والمهم الآن ان الانتخابات التشريعية سوف تفرز برلمانا لا يحكمه "التوافق" كما كان مع الرئيس الراحل الباجي قائد السبسي و انما مبني على فكرة الصراع بين "السيستام" و "السيستام المضاد" في ظاهرة سياسية هي الأولى من نوعها في تاريخ تونس السياسي.