إيران وتركيا..&دولتان اقليميتان تمتلكان مشروعين مختلفين في المنطقة العربية، فالأولى لديها مشروع توسعي قومي يرتدي وجهاً طائفياً بحتاً، والثانية تسعى لإحياء الحقبة الإمبراطورية استجابة لحلم الرئيس أردوغان في أن يعيد مجد أجداده العثمانيين؛ والقاسم المشترك بين المشروعين هو تشابههما المرضي المغرق فيما يمكن تسميته بـ&"النوستالجيا"&السياسية، التي يعانيها النظامان، اللذين يعانيان معضلات معقدة في الداخل والخارج على حد سواء، ويلجأن إلى الهروب من الواقع ومحاولة العودة إلى الماضي ودغدغة مشاعر شعبيهما بالماضي الفارسي في الحالة الإيرانية، والعثماني في الحالة التركية!

الرغبة في استعادة امجاد الماضي ظاهرة تعانيها شعوب عدة حول العالم، كما أن النوستالجيا السياسية تنجح جذب الدعم الشعبي للقادة والساسة، ولا ننسى أن الرئيس الأمريكي دونالد ترامب يدعو دائماً إلى استعادة&"أمريكا العظيمة"&ويستقطب بشعاراتها في هذا الشأن تأييد ملايين الناخبين، ولكن في الحالتين الإيرانية والتركية، نجد أن هذه الظاهرة تسكن عقل النظامين الحاكمين، اللذين يحاولان بكل الطرق توظيف هذه الظاهرة في صرف أنظار شعبيهما عن المشكلات الاقتصادية الداخلية والأزمات الخارجية يعانيها كل منهما.

وكي لا نذهب بعيداً، سنناقش في هذا المقال بعض جوانب السلوك التركي الإقليمي، ولاسيما ما حدث مؤخراً بتوقيع&الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، وفايز السراج رئيس المجلس الرئاسي لــ"حكومة الوفاق الوطني"&الليبية، مذكرتي تفاهم حول التعاون الأمني والعسكري بين أنقرة وطرابلس، وتحديد مناطق النفوذ البحرية،&"بهدف حماية حقوق البلدين النابعة من القانون الدولي"، وهذه التفاهمات تعكس رغبة تركيا في استغلال حالة الهشاشة التي تعانيها دول عدة في المنطقة العربية لتحقيق أهدافها الاستراتيجية.&وإذا كان البعض قد انخدع بالدعاية التركية حول أهداف تدخلها العسكري في شمال سوريا بدعوى انشاء منطقة آمنة لإيواء اللاجئين السوريين في تركيا، فإن الاتفاق ذا الطابع الأمني مع رئيس حكومة الوفاق الليبية يفضح نوايا تركيا في التمدد الاستراتيجي، كون الاتفاق&يوفر للأتراك غطاءً للتدخل العسكري غير المشروعة في بلد عربي آخر.

مذكرة التفاهم بين الرئيس أردوغان والسراج، والتي تتضمن تقديم الدعم العسكري التركي للميلشيات التابعة لحكومة الوفاق في صراعها مع الجيش الوطني الليبي، تعد بمنزلة انتهاك صريح لقرارات مجلس الأمن الدولي التي تحظر تصدير السلاح إلى أطراف الأزمة في ليبيا، ولا شك أن توقيت مذكرة التفاهم يؤكد أن دخول تركيا على خط الأزمة في ليبيا بشكل علني سافر يعني رغبتها في خلط أوراق الأزمة الليبية، واستخدام هذه العلاقات في مناكفة دول إقليمية عدة في مقدمتها مصر واليونان، ولاسيما في موضوع غاز شرق المتوسط.

والمؤكد أن سعي الرئيس أردوغان لشرعنة تزويد ميلشيات حكومة السراج بالسلاح في مواجهة الجيش الوطني الليبي بقيادة خليفة حفتر، إنما يقوض أي جهد دولي يستهدف تسوية الأزمة في ليبيا سياسياً، فهناك محاولات أممية للتمهيد للاجتماع الدولي حول قضايا التسوية الليبية في برلين، الذي يخطط لعقده في أواخر العام الجاري.&

كما تسعى تركيا لإيجاد أوراق ضغط مضادة في موضوع غاز شرق المتوسط، باعتبار أن الاتفاقية التي وقعتها حكومة السراح هي الثانية في البحر المتوسط التي وقعتها أنقرة، بعد اتفاقية مشابهة مع&"شمال قبرص التركية"، وهي محاولة يائسة لإيجاد معادل موضوعي لـ&3&اتفاقيات لترسيم الحدود البحرية في شرق المتوسط عقدت بين قبرص ولبنان ومصر وإسرائيل، وبالتالي تلجأ تركيا إلى توقيع اتفاقات منقوصة وغير شرعية لا لشىء سوى لمحاولة تحسين موقفها التفاوضي وافتعال أزمة والسعي لخلط الأوراق وإرباك الوضع في ملف غاز شرق المتوسط.

الحقيقة أن&"السلطان"&أردوغان يعاني أزمة حقيقية ويحاول تحقيق أي نجاح او اختراق في ملفات السياسة الخارجية التركية، التي تحولت في السنوات الأخيرة من&"صفر مشكلات"&إلى أحد ضلعي اثارة الأزمات والمشاكل في منطقة الشرق الأوسط إلى جانب النظام الإيراني، كما نجحت السياسات الأردوغانية بامتياز في نسف كل نجاحات الحقبة التي أدار خلالها داود اوغلو مهندس السياسة الخارجية التركية السابق علاقات بلاده الإقليمية والدولية، وأهدر كل نجاحات التوغل التركي عبر القوة الناعمة في المحيط العربي والإسلامي، بعد أن لجأ إلى التدخلات العسكرية والتحالف مع تنظيمات الإرهاب، وفي مقدمتها تنظيم&"الإخوان المسلمين"، ليصبح أردوغان نموذجاً في التحول من النجاح إل الفشل وإهدار النجاحات والإنجازات!

إنها النوستالجيا السياسية التي يعانيها أردوغان والملالي على حد سواء!!