حاولت السلطة في لبنان وأحزابها، يمينًا ويسارًا، الخلاص من الثورة الشعبية السلمية المندلعة منذ 17 أكتوبر الماضي، وما زالت، بكل ما في وسعها من حيل فتنوية. وما شهدته ساحات الاعتصام منذ ليل السبت الماضي لا يحتاج إلى جهابذة في التحليل السياسي كي يعرف الجميع، في داخل لبنان كما في خارجه، أن الارتباك الذي ألقى بظلاله ثقيلةً على العصابة السياسية – الاقتصادية التي تتحكم بأعناق اللبنانيين وبأرزاقهم يجعلها تفرفر كما الديك المذبوح، وأن الدواء الذي اجترحته لجرح الثورة اللبنانية هو الكيّ الفعلي بنار التفرقة الطائفية.

منذ اليوم الأول، عرف الثوار اللبنانيون أن المعركة الأقسى في مسار ثورتهم لن تكون مع حزب الله، ولا مع فتاوى وتقليعات أمينه العام حسن نصر الله، بقدر ما ستكون مع رديفه في ثنائي الأمر الواقع الشيعي، نبيه برّي، رئيس الهيئة التشريعية إسميًا، ورئيس بقايا ميليشيا حركة "أمل" فعليًا. فهذا الرجل محنك في هندسة السياسات وطبخ الصفقات، يشبهه اللبنانيون منذ زمن بأنه الساحر الذي يُخرج في كل أزمة من قبعته أرنبًا، ولن يغادر فرصةً يبذل فيها كل جهد كي يحفظ لنفسه وومن معه&مصالحهم وامتيازاتهم وتسيّدهم على ساحة شيعية، ولبنانية أعم، أرهقها الفساد وتحكمت فيها الزعامات.

لهذا، كان طبيعيًا أن يقف الثوار خلف أسوار البرلمان اللبناني، وهو بيتهم في الأصل ومن فيه وكلاء لهم وللبنانيين جميعًا لا أكثر، طارحين الصوت مطالبين بزوال مكروه برّي من لبنان، وبحكومة من المختصين غير المسيّسين تنتشلهم والبلاد من الانهيار الاقتصادي – الاجتماعي المتسارع. وبالتالي، كان طبيعيًا ارسال&أجوج&ومأجوج&إلى الساحات، وتحديدًا إلى حيث يحتشد الآلاف قريبًا من البرلمان، كي يفتعل المشكلات مع القوى الأمنية لجرّها مرارًا وتكرارًا إلى معركة مع الثوار السلميين، لا ناقة للأمن والثورة فيها ولا جمل. وكان طبيعيًا أن ينبش العباقرة مقطعًا مصورًا قديمًا لموتور جاهل شتم فيه آل بيت النبي ليكون الحجة كي تجتاح جحافله من المغرر بعقولهم مواقع الاعتصامات في مناطق لبنانية عدة، فتحرق الخيام وتكسر المتاجر المحيطة بها وتحطم السيارات وتشعل النار في أشجار وسط بيروت. وكان متوقعًا أيضًا أن تكون الهجمة أعتى في مناطق الجنوب اللبناني، حيث هو الآمر الناهي، لكن لم يتوقع أحد أن تصل البربرية إلى حد إحراق خيمة في الجنوب لا يُقام فيها نشاط ثوري إنما هي مخصصة لجمع التبرعات وتوزيع المساعدات على من ضاقت بهم سبل العيش من الجنوبيين أنفسهم، ومنهم كثير ممن يُدين بالولاء لبّري نفسه، أو لسيّده نصرالله.

وصل اليأس ببرّي، ومن ورائه بالطغمة الحاكمة في لبنان، إلى نشر مسلحيه الشيعة في مناطق بيروتية تسكنها أغلبية سنية ليلة 17-18 نوفمبر، في مظاهر تذكر فعليًا بالحرب الأهلية اللبنانية، في رسالة واضحة إلى الثورة، ليضعها أمام خيارين: الانكفاء أو الحرب. فقد هال السلطة في لبنان فعلًا ما وصل إليه الجيل اللبناني الجديد من وعي سياسي منفلت من القيدين الطائفي والمذهبي، وهما القيدان اللذان راهن عليهما كل من في السلطة لسياقة اللبنانيين منذ أكثر من ثلاثة عقود كما قطعان الماعز، مرةً إلى سلم أهلي فصّله أركان السلطة اللبنانية على قياسهم، بمحاصصة ثبتوها عرفًا خلافًا للدستور بحجة حماية البلاد من الفتنة، وبقانون انتخاب أعرج، يثبت أقدام المتلسطين على مصير الشعب اللبناني، ومرّة إلى حرب أهلية تأكل أخضر لبنان ويبسه. هال من في السلطة أن يثور اللبنانيون مطالبين بعيش كريم، وبتغيير فعلي يقضي على فساد الطوائفيين، وباستعادة نحو 100 مليار من الدولارات منهوبة من المال العام اللبناني لإنقاذ اقتصاد هوى فعلًا إلى دركٍ لم يسبق أن نزل إليه من قبل.

ليس في تحقيق هذه المطالب إلا زوال&برّي وأترابه من بقايا الحرب الأهلية الذين كرّسهم اتفاقا الطائف والدوحة. فهل نسأل بعد ذلك لمَ يحصل ما يحصل في لبنان اليوم؟