لا غرابة في أن يشكل الكرد في سوريا، الهاجس المحوري في كل جولة تفاوضية تركية مع أي طرف من الأطراف الدولية والإقليمية المعنية بالملف السوري. ولا يمكن للمرء أن يتخيل تساهل أنقرة أبداً تجاه أي تطور ومستجد يُفضي الى تحسين موقع الكرد السياسي في المنطقة، إن كان الأمر تَعَلَقَ بالكرد في سوريا أو العراق أو أي جزء آخر من كُردستان، فالموقف تحول فعلاً الى شيء من الـ(كوردوفوبا/ Kurdophobia)!، أي ظاهرة مرضية تتجلى في خوف تُركي مبالغ فيه وغير عقلاني بالمرة من الكُرد، وكراهية غير منطقية تجاه القضية الكردية.

والإستراتيجية التركية، أو التي ترتبط – كما يدعون، بالأمن القومي التركي – تقوم أساساً وللأسف على نفي وجود القومية الكردية كظاهرة وحركة سياسية تطالب بأي حقوق حتى ولو كانت مشروعة، وهذه الإستراتيجية ليست وليدة اليوم بل أضحت إستراتيجية عتيدة تُجدد نفسها دوماً مع المستجدات والتطورات التي تشهدها القضية الكردية في منطقة الشرق الأوسط.

وقد بات الأمر اليوم، تقريباً، بمثابة عداء قومي للأسف، لكنه مُزيَّن بطبيعة الحال في خطاب رسمي تقليدي، يُلزم هذا الخطاب كافة المؤسسات في الدولة والمعنية بالتنشئة السياسية والإجتماعية، منذ قرن من الزمن، بتغذيته والتعبيئة له وتحويله الى أمر طبيعي!، أو بداهة من البداهات التي لايحق لأحد ان يناقش الدولة فيها وإلا سيكون مجهول المصير، أو في أحسن الأحوال، مُعَرَضاً للإعتقال والسجن.

وبهذا المعنى لا نستغرب أن تطالب أنقرة اليوم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين بأن لا تتعاطى دمشق مع الكرد في سوريا ولاتدخل في أي حوار وطني معهم، لا لأن الحوار والتفاوض ليسا في مصلحة سوريا والحكومة في دمشق وإنما لهدف آخر مضمر يتعلق بأنقرة، قبل أي طرف آخر!، وهو الخشية من تأسيس كيان كردي آخر في المنطقة يفرض نفسه كأمر واقع Defacto على الجميع ويُدعم دولياً لحد إرغام أنقرة في النهاية على التعاطي معه على غرار إقليم كردستان العراق.

والأمر ليس موضع الإستغراب أبداً، فهذا كان موقف أنقرة حتى من القضية الكردية في العراق في مرحلة حكم البعث(1968-2003م)، إذ لعبت الأتراك آنذاك دوراً مُخَرباً أيضاً إزاء المساعي الرامية لحل القضية الكردية، لاسيما بعد أن أدركت أن صدام حسين (1937-2006م) استجاب لتلك المساعي ودخل في حوار مثمر مع الإتحاد الوطني الكردستاني وقبله بعام مع الديمقراطي الكردستاني. وقد توصل صدام فعلاً الى إتفاق مبدئي مع الإتحاد الوطني في عام (1984م) ولم يبقى سوى التوقيع عليه، إلا أن أنقرة تدخلت دبلوماسياً في الأمر وبذلت كل ما بوسعها للحيلولة دون إبرام هذا الإتفاق وتحقيق الحل السلمي للقضية في العراق، بل أسوأ من ذلك حثت بغداد على التراجع عن الإتفاق ورفض مطالب الكرد وحركته السياسية، وذلك بذريعة الحفاظ على الأمن القومي التركي- العربي المشترك في المنطقة.

نعم، عاملت السلطات التركية الكرد دوماً وعلى مر التاريخ الحديث معاملة متطرفة وحاولت، كما يشهد لذلك القاصي والداني، طمس هويتهم وثقافتهم وتاريخهم. وهذا ما دفع بالكرد بأن يؤسسوا حركات ويشعلوا ثورات متعددة في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي لكنه مُخمَدة كُلها في النهاية بالحديد والنار، كما كان الحال في العراق وسوريا أيضاً مع حقبة صدام حسين وحافظ الأسد، ليس هذا وحسب، وانما إبعاد الأتراك لعشرات الآلاف من الكرد في تركيا الى مناطق بعيدة عن مدنهم وقراهم في إطار سياسية التغير الديمغرافي وتغيير اسماء القرى والبلدات والمدن الكردية وحظر الأسماء والأزياء الكردية فضلاً عن حظر استخدام اللغة الكردية، وأنكار وجود الهوية العرقية الكردية، وإعتبار الكرد مجرد"أتراك الجبال".!.

واليوم، لا يُخفى على أحد بأن أنقرة لاتروم أيضاً بأن يكون هنالك أي مسعى حقيقي بإتجاه تعايش الشعوب في المنطقة وإعادة الأمن والسلام والوئام الداخلي في سوريا على وجه الخصوص، لاسيما من خلال إيجاد حلول وطنية للقضية الكردية وتعزيز الجبهة السورية لمواجهة العدوان الخارجي، الذي تمثل أنقرة اليوم أحد أبرز أطرافه بإحتلالها للأراضي السورية ودعمها للميليشيات الراديكالية المتطرفة المتواجدة في أدلب ومناطق أخرى في شمال سوريا.

• كاتب وأكاديمي – من كردستان العراق