نتجه حتما الى تغيير منوال التنمية وإعادة توزيع الثورات والقيام بالإصلاحات الكبرى مكرهين هذه المرة، فجائحة كورونا كشفت ان لا وقت لدينا لمزيد ربح الوقت لكسب المعارك السياسية على حساب الاقتصاد.

المؤسسات العمومية والمرافق العامة اثبتت وهنها وهو شيء معروف من العامة قبل الخبراء لكن لا أحد كانت له الشجاعة لقول الحقيقة والبدء بالإصلاحات الكبرى لأننا قضينا عشر سنوات في حملات انتخابية ووعود لا تنتهي ولا تتحقق أيضا.

قامت الثورة لأن مجموعة من المقربين من الرئيس السابق زين العابدين بن علي استأثروا بثروات البلاد فانتشر الفساد والمحسوبية ودخلت البلاد في ازمة هيكلية نتج عنها ارتفاع معدلات البطالة وخاصة في أوساط خريجي الجامعة.

كان ينتظر ان تقوم حكومات ما بعد الثورة بإصلاح أخطاء الحكومات السابقة وجرائم النظام السياسي الذي كان قائما. خيبة الأمل كانت أكبر من توقع أكثر المتشائمين. ارتفعت مدركات الفساد في البلاد بشكل لافت إضافة الى اضطراب سياسي وسط مشهد حزبي متقلب دفع بالبلاد في اكثر من مناسبة الى حافة الهاوية أو أكثر. كانت هناك أيضا ارادة دولية في إنجاح التجربة الديموقراطية الفتية في ظل فشل ما يسمى بالربيع العربي في بقية الدول العربية، غير ان صبر الدول المانحة قد نفذ بعدما اكتشفوا زيف الإصلاحات المزعومة ناهيك ان صندوق النقد الدولي قرّر ولأول مرة في تاريخ البلاد تعليق القسط السادس من القرض الممنوح لتونس بسبب عدم قيام الحكومات السابقة بالإصلاحات المتفق حولها. لا أحد يعلم أين ذهبت آلاف المليارات الممنوحة لتونس طوال قرابة السبع سنوات رغم مطالبة بعض الأحزاب اليسارية والجمعيات بالتدقيق في مديونة البلاد.

لم يتغير تقريبا شي بعد تسع سنوات من الثورة عدا ارتفاع منسوب حرية التعبير الهشة أصلا والمهددة من السلطة وبعض المهنيين أنفسهم. كشف برنامج تلفزي خصص لمعالجة جائحة كورونا وانعكاساتها المحتملة هشاشة هذه الحرية حيث تحول البرنامج في أحد القنوات الخاصة الى التهجم على وزير الصحة والترويج لبعض الأشخاص النافذين في قطاع الصحة مما أعاد الى السطح قضية اللوبيات الفاسدة التي اتسمت بها فترة بن علي قبيل الثورة.

هناك مخاوف من تغيرات قد تعصف بعرش رجال الأعمال في تونس، فحكومة الفخفاخ المنتمي للعائلة الديموقراطية الاجتماعية، متكونة من أحزاب ذات مرجعية قومية ويسارية وإسلامية متشددة لا تنظر بعين الرضا لثروة الأثرياء ورجال الأعمال في تونس ويرون أنها تراكمت بسبب القرب من العائلات الحاكمة عبر التاريخ. وهي بذلك نتيجة حتمية للفساد والمحسوبية والتهرب الضريبي والتسهيلات البنكية التي لا يتمتع بها صغار الحرفيين والصناعيين وغيرهم من العمال والموظفين. حملاتهم الانتخابية قامت أساسا على ضرورة التوزيع العادل للثروات ومكافحة الفساد ومحاسبة رجال الأعمال دون تفرقة أو تمييز.

رئيس الحكومة نفسه ووزراء في حكومته وناشطين سياسيين، بعثوا برسائل تهديد مبطنة لرجال الأعمال مضمونها "ان لم تساعد الدولة في مكافحة الكورونا، فإننا سوف نستعمل أساليب أخرى" مما دفع رئيس اتحاد الأعراف وهي منظمة كبار الصناعيين ورجال الأعمال، الى الحديث عن شيطنة رجال الأعمال ومخاوف من "تأميم" الشركات الخاصة.

لا نُشيطن لكن الأرقام لا تخفي تمعّش عدد كبير من رجال الأعمال في تونس من سخاء السلطة القائمة منذ دولة الاستقلال،وهذا لا يشمل المؤسسات الصغرى و المتوسطة، فعلى سبيل المثال الامتيازات الضريبية التي تمنحها الدولة للقطاع الخاص تقدّر ب2000 مليار سنويا و هي امتيازات تقدم لمجموعة تستحوذ على مقدرات البلاد وتحكم غلق السوق وهو ما دفع سفير الإتحاد الأوروبي في تونس باتريك برغاميني الى القول "اردنا مساعدة التحول الاقتصادي في تونس و دعمه لأنه هناك تفاهمات واحتكار. بعض المجموعات العائلية ليس في مصلحتها بروز مستثمرين من الشباب"

مجموعة البنك الدولي نشرت سنة2014 دراسة لا بد من الوقوف على أهم نتائجها، و هي تكشف بأنه"بلغ اجمالي ما قدمته البنوك التونسية من تمويل الى الشركات المقربة من عائلة الرئيس السابق ما نسبته 2،5في المائة من اجمال الناتج المحلي أي ما يقابل 5 بالمائة من مجموع التمويل الذي القطاع البنكي للإقتصاد كما أن 30 بالمائة من القروض قدمت بدون ضمانات في حين يحتوي قطاع السياحة على اكثر من 25 بالمائة من القروض المتعثرة".

لا شي في نهاية الأمر يبدو واضحا حيث تعيش البلاد على رمال متحركة تنبئ بتغييرات كبيرة لن تسلم منها كل البنى والمنظومات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية ولا أحد في الوقت نفسه يدرك ماذا سيحدث بعد أسبوع أو أكثر ولا حتى رئيس الحكومة نفسه كما أكد امام مجلس نواب الشعب.

الأكيد ان أزمة اقتصادية واجتماعية سوف تنفجر لا محالة وسوف تأتي على الأخضر واليابس وسط مناخ سياسي مشحون وحالة من اللاقين المطلق. هناك من يتوقع انهيارا كامل للمنظومة السياسية والاقتصادية القائمة بعد مرور أزمة الكورونا، هذه المنظومة بحسب كل التقارير الوطنية والدولية لم تعد قادرة على خلق الثروات ومواطن الشغل فبراديغم اقتصاد الريع المرتكز على نموذج اليد العاملة البخسة والسياحة الساحلية ذات الجودة المنخفضة قد اثبت محدوديته منذ سنوات.
اثبت التاريخ أن الجوائح والأوبئة تؤسس دائما لنظم اجتماعية واقتصادية جديد تبنى على أنقاض سلفها بعد ان تبين المنظومة القديمة فشلها. إنها ليست نهاية التاريخ بمفهوم فوكوياما وإنما نهاية اقتصاد السوق والنيولبرالية المتوحشة التي قال فوكوياما انها تمثل نهاية التطور الإيديولوجي للإنسان.فهل تحقق جائحة كورونا حلم ما لم تحققه ثورة 14 جانفي في بناء دولة إجتماعية ديموقراطية؟