أتذكر جيدا السؤال المهم أيام الطفولة والمدرسة الابتدائية الموجه لنا دائما من الأهل والأقارب والجيران الذي لا يحتمل الترك والهروب منه، حول مهنة المستقبل المثيرة للرغبة والاختيار، وكان الجواب سريعا وتلقائيا: معلم. وكانت هذه التلقائية في الجواب لها معنى ودلالة عميقة، فالمعلم كان في زمن بساطة الحياة ، والقبول بالرزق البسيط صوت العلم والمباهاة ، والقدوة في السلوك والمكانة ، وكانت الأحياء تميّز البيوت الراقية اجتماعيا عندما تطلق عليها لقب (بيت المعلم)،بينما أصبح المعلم اليوم في عقل الطلبة في آخر قائمة المهن تذكرا واختيارا، بل صار تندرا أن يختار الشاب هذه المهنة ،فالحلم هو أن يكون مطربا أو رياضيا ليحقق الشهرة والمال،لأن الأوطان ما عادت تجعل من المعلم رسولا يبشر بالحرف ، ولا مبجلا بالقيام والاحترام ،بل صار أفقر الناس مالا، وأكثرهم شفقة وتهميشا ،واضعفهم رأيا وحكمة . سبحان الله مغير الأحوال والنفوس ومقلب القلوب!

لم يعد المعلم العربي يتكلم بالعربي الفصيح كما كان زماناً، وما عادت القسمة والطرح إلا معادلات للجحود من الجميع، فلا الحكومة تعترف بأفضاله وحكمته لأنها مشغولة بصراعات السلطة والمال، ولا المجتمع يحميه من النفايات السامة التي تفرزها المنظومات الاجتماعية الجديدة. الكل جاحد بحقوقه ودوره، وكأن التعليم أصبح هاجساً لموت الحقيقة، ونبراساً للجهل، وشتيمة مجتمعية، ودراما للاستهزاء في وسائل الإعلام، وماعاد المعلم رسولاً كما يقول الشاعر أحمد شوقي، وإنما صار في خبر الزوال والجحود!

ما أكثر الكلام اليوم عن مأساة المعلم! وإن كان ما يقال عن مهنته هو أحياناً باطل يراد به جملة من الحقوق، وليس حقّاً واحداً، وقد بلغت به المأساة والعقوق بأفضاله إلى الحد أن سلبت حقوقه الإنسانية، وجرفت كرامته! ونادراً ما نسمع اليوم في ضجيج الحياة المتهاوية، وتعاسة العيش، وانحدار القيم، من يعترف له بأفضاله التربوية، بل إن ما يحدث هو العكس؛ حيث أصبحت إهانة المعلم ثقافةً سائدةً، ومنهاجاً دراسياً في العقوق، وتربية وطنية لإضعاف ولائه الوظيفي، وكيمياء لبث سموم ثاني أوكسيد الكاربون، وفيزياء لجاذبية احتقار المهنة، وتربية فنية لإعادة رسم صورة المعلم النمطية باللون الأسود.

في الماضي قال أسلافنا: (من علّمني حرفاً صرت له عبداً)! ونحن لا نريد من أحد أن يكون عبداً حتى للمعلم الأول أرسطو، وكل ما نريده هو أن لا يكون أول سهم يرميه التلميذ على من علّمه الرماية، وأن لا يكون أول بيت شعر في هجاء من رعاه وأمسك بيده ودلّه على الطريق، وأن لا يكون أول قرار مجحف يصدره السياسي على من علمه أبجديات الحرف، وصنع مجده، ووضعه حاكماً على البشر، وإياك أن (تضع قدمك حتى على ظلّ المعلم)، كما تقول الحكمة الكورية، لأن إعادة قتل الموتى هي أقصى ما بلغه العقوق!

هل نسينا ما قيل عن المعلم الذي أوشك يكون رسولاً؟! ونسوا أيضاً أن أفضل صفة كانوا يطلقونها على الفيلسوف والمصلح والرائد هي صفة "المعلم"! منذ أطلقوا على أرسطو لقب المعلم الأول وعلى الفارابي الذي ينافسه على هذا اللقب ابن رشد وابن سينا لقب المعلم الثاني، وقال فيصل الأول قولته الشهيرة: (لو لم أكن ملكاً لكنت معلماً).

لكن المهنة أصبحت اليوم ثقافة مهانة، وعواقبها تزكم أنوفنا بسبب الإهمال وعدم الإنصاف والاحترام، لأن التعليم أصبح بضاعة فاسدة، وحاضنة للجهل والأمية العلمية، وتفقيس لأجيال تفتقر للعلم، والولاء للمدرسة والأسرة والمجتمع والوطن، أجيال مهمومة بصناعة الغش والغيبيات، والتنابز على المعلم بالألقاب المهينة والتطاول عليه، فما عادت مؤسسات التعليم اليوم تختصر بهاء احترام المعلم (قم للمعلم وفِّهِ التبجيلا). ما عادت هذه المؤسسات تأبه بدروس العلم ونظريات أينشتاين، وميل الكتل والأجسام للانجذاب والتحرك نحو بعضها بعضا، لأن الانجذاب العلمي صار من الماضي، وصرنا اليوم أكثر انجذاباً لطقوس الغيبيات وأخبار الفن الرديء والطبخ والتنجيم والسحر وقصات الشعر والبوتكس والتنفيخ.
كنا زماناً، نبحث عن القدوة، ولا نجدها إلا عند المعلم، ونبحث عن النصيحة والمساعدة، حيث يكون المعلم هو الحكيم الذي يرسم خارطة حياتنا، بينما حال المعلم اليوم يندى له الجبين، خيالاً وحضوراً، لأن طلبته يعطفون عليه بالمال عندما لا يتمكن من دفع إيجار البيت، ويعطونه الإكرامية عندما يمتهن سائق تاكسي بعد العمل، ويعطفون عليه عندما يشاهدونه بائعاً للخضراوات والفواكه!! وهكذا حال الأيام نداولها بين المعلمين، وحال طلبة آخر زمن!

مرة سئل مؤسس سنغافورة: ما سر تقدم الدولة، قالها بصريح العبارة: (المعلم.. المعلم، والتعليم)، حيث راتب المعلّم في حدود 47 ألف دولار في السنة، بينما أوطان أخرى تجعله بمقام (الملك والوالدين) كما في كوريا الجنوبية، وراتبه الشهري 3000 دولار شهرياً، وفي اليابان سئل الإمبراطور الياباني، ذات مرة، حول هذه المسألة، فقال: (إن دولتنا تقدّمت، في هذا الوقت القصير، لأننا بدأنا من حيث انتهى الآخرون، وتعلّمنا من أخطائهم، وأعطينا المعلّم حصانة الدبلوماسي، وراتب الوزير). وفي إندونيسيا ينظر إلى المعلم باعتباره (الإنسان النبيل)، وأصبحت مهنة التعليم، تـصنَّف ضمن أكثر ثلاث مهن شديدة الاحترام. وفي بريطانيا يقدر متوسط رواتب المعلمين بنحو 31 ألف جنيه إسترليني في العام، ويحظى المعلّم في هولندا بالرعاية والاهتمام، ومتوسّط راتبه الشهري نحو 4500 دولار أميركي شهرياً، وهو يتقارب في ذلك مع راتب المعلّم في سويسرا.

وهكذا هي منزلة المعلم في أوطان الازدهار؛ كهرباء تضيء ظلمة الزمن، بينما المعلم العربي مهدور الكرامة، فلا هو (ملك) بالاسم مثل زميله الكوري، ولا هو (وزير ودبلوماسي) بالراتب مثل زميله الياباني، ولا هو (الأنسان النبيل) مثل زميله الإندونيسي، ولا هو (الفيلسوف والمصلح) مثل أرسطو والفارابي وابن رشد وابن سينا، فهذا المقهور راتبه لا يكفي أسبوعاً واحداً، ومهنته أصبحت موضعَ تنَدُّر الجميع، ورسالته ما عادت إلا نُواحاً عل الماضي وتفريطا بالجمال، فقد خلعوا عنه النبل والقدوة وحكمة العلم والأبوة ورسالة النبوة.

فأي أوطان تعيسة وجاهلة هذه التي تجعل مهنة المعلم مقترنة بالفقر والحرمان، وشتيمة للتندر المجتمعي والإعلامي، وتغمض عينيها عن مطالب المعلم في تحسين حياته ورفاهيته، وتصر على عقوق من علمها تهجي الحروف الأبجدية!!

ما زلت أتذكر القراءة الخلدونية للصف الأول الابتدائي في العراق عندما كنا نقرأ في (زمن المعلم) فقرة معبرّة نحفظها عن ظهر قلب: دار... دور.. في دارنا نوري.ومع الأسف ما عدنا نقول اليوم في دارنا نوري، بل صرنا نقول في دارنا حمير!