تروي أساطير الأدبيات الاسلامية أنّ الخليفة الرّابع علي بن ابي طالب كان يكنس، مع ابن عمه ابن عباس، بيت المال، بعد توزيع العطاءات على المسلمين، كلٌّ حسب موقعه في الاسلام وفق أعراف عصر الخلافة، كي لا يبقى درهم واحد في ذمة الخليفة، بغض النّظر عن الجدوى أو عدمها في خلق تراكم نقدي للدّولة يقوّي من سلطانها.. إنّ هذه الرّواية كناية عن العدل بين النّاس والقسطاس في توزيع المال العام وبراءة ذمة الحاكم، فــ "العدل أساس الملك" كان شعار الدّولة الاسلامية النّاشئة.

أسرّ لي مصطفى الكاظمي في جلسةٍ في لندن أبان تسعينات القرن الماضي أنه يقتدي بشخصيتين اكثر من شخصيات التاريخ الأخرى: علي بن ابي طالب وعبد الكريم قاسم، أوّل رئيس وزراء للجمهورية العراقية 1958 . 1963. سيرة الأول معروفة في كتب التّاريخ ومتفق ومختلف عليها، أمّا سيرة الثّاني فمعروفة لدى العراقيين،ومتفق ومختلف عليها ايضا، خصوصاً بعد اعدامه المأساوي في صالة موسيقى الأذاعة العراقية . الاثنان، قُتلا في شهر رمضان وصارا أيقونتين في المتخيل العراقي وذاكرته، وكذلك صارا نموذجين للعدل، وإنْ لم يحكم كلّ منهما، العراق، أكثر من خمسة أعوامٍ!

كأن التّاريخ يتكرّر في العراق على صورة مأساتين ومهزلة واحدة، فحين تسلّم الكاظمي عرش رئاسة الوزراء، بعد محنةٍ داميةٍ، توقّع الأغلبية من المراقبين وغير المراقبين، أنه سيحقّق ما عجز عنه أسلافه، وأنّه سيقلب جميع طاولات الفساد والسّحت والخيانات والشرذمة التي التهمت 17 عاماً من أعمار العراقيين وأقعدت البلاد على "الرّنكات" وصارت تهدّد الأجيال القادمة.

لقد وصل الكاظمي إلى العرش في حفلة تتويج سرّية وغامضة لكنّها بتوافق أغلب الأطراف السّياسية من كرد وعرب وتركمان، سُنّة وشيعة، وهوى خليجي، وأهواء أُخرى شرقية وغربية، دينية وعلمانية وبين بين. كانت مهمته أخراج البلد من الطّريق المسدود الذي دفعه اليه عادل عبد المهدي، والتّهيئة، خلال عام واحد، لانتخابات حرّة ونزيهه، تعيد للعراق هيبته وللعراقيين محصول انتمائهم لهذه البلاد / الوطن، الذي تحوّل إلى أكبر "سوق هرج" في العالم.

لكنّ ماحدث بعد 100 يوم لم يحرّك ساكن واحد في الواقع. نعم، الشّكل تغيّر تماماً بحكم روح الشّباب التي تجعل رئيس الوزراء يمشي بسرعة، تقاربُ الهرولة، مقارنة بسابقيه بمن فيهم لاعب السّلة الأشهر في المدينة الجامعية لبواتيه الفرنسية. بدأت أيام حكم الكاظمي بمكالمة علنية أمام الكاميرات لشقيقه الأكبر "عماد" في منتصف ليلة صيف، يتوعّده من دون ذنب اقترفه.. مكالمة جعلت العراقيين، رغم سخريتهم، يتشائمون من القادم. وضع الكاظمي على رأسه كاسكيتة أمريكية ليحتمي من شمس صيف العراق اللاهبة، لكنّه ظلّ يرتديها حتى بعد أنْ حلّ الخريف. صار يزور مآتم ضحايا الاغتيالات والعمليات الأرهابية، يحضن ذويهم واطفالهم ويتوعد القتلة وكشفهم في ايام قليلة . ومرت الأيام .... ولاخبر جاء ولا وحي نزل.

الكاظمي كأنه بطل في ركض المسافات الطّويلة صار يتفقد المشاريع المتعثرة من البصرة حتى سنجار، يرتجل خطبه ولم يتقدّم مشروع واحد. جولات مكوكية في فرنسا والمانيا وبريطانيا وحتى أمّ الدّنيا الجديدة، الولايات المتحدة الأمريكية، صانعة السّيارات ورجال السّياسة .
بعد الـ 100 يوم المحددة، انكشف السّاتر والمستور وأنفصل الشّاطر عن المشطور. خيام الاعتصام أُزيلت في فجر يوم خريفي بلا أمطار، فلا عِصمة في ساحة او جبل ولا اعتصام بعد اليوم. لا طريق حرير بل طريق وعر من إبر جلد القُنفذ يمرّ عبر اتفاقٍ مستعجل للأعمار وتشجير المدن بالصنوبر مع مصر والأردن. اتفاق مع دولة كردستان المجاورة لحماية الجنوب، لفّه غموض ما يزال عصيّاً على الفهم لشعب قبض الرّيح أو أقل.

هكذا، بعد أنْ تجاوز الكاظمي الـ 100 يوم ويوم أعلن، ليس افلاس حكومته كما ينبغي، بل افلاس الدّولة العراقية برمّتها. دولة مفلسة لا تستطيع دفع رواتب موظفيها في الوسط والجنوب فقط "وهي نفس الدّولة التي كانت تدفع بانتظام رواتب موظفيها في الموصل سنوات احتلال داعش للمدينة".

هذه الدّولة تعرض الآنَ ممتلكاتها الباقية للبيع في سوق الهرج الكبير دون شروط تقليدية تتبعها الدّول، كي تدفع رواتب متقاعديها وخدمها. دولة يتقاضى رئيس الوزراء فيها مليون وثلاثمائة ألف دولار يومياً كمصاريف نثرية، عدا راتبه وفقاً لتصريح أحد موظفيها من ذوي الشأن.

بلاد الخير كما يسميها أهلها لم تعد لا في العير ولا النّفير.
السّؤال مَن سيقرض هذه الدّولة مليارات لتبقى واقفة، ولو شكليا، بعد أن كنس الكاظمي ومستشاريه مِن أحبار الأُمّة بيت مالها؟ مَن سيقتدي بعبد الكريم قاسم الذي لم يجدوا بعد مقتله، في حسابه غير 350 فلساً عراقياً وثّقها كتاب روى سيرته؟

في الأساطير العراقية القديمة كانت الآلهة حين تغضبُ تسلّطُ الطّوفان والأوبئة على البشر، أما في الأساطير العراقية الحديثة تسلّط عليهم رجال السّياسة مِن المحترفين والهواة .