على حين غرة هبت عاصفة جديدة محملة بغبار يورانيوم الموت والفقر على شعب العراق. هي عاصفة الضرائب والاستقطاعات على الرواتب. وتخفيض قيمة العملة الرسمية من 1190 دينارا عراقيا في مقابل الدولار الأمريكي إلى 1450 دينار. العاصفة هذه المرة مرّة وقاسية بتوقيتها وأهدافها. فالتوقيت قاتل حتى العظم. فليس هناك في العراق غير أنين الطبقات الفقيرة والمتوسطة الذين أفقرتهم السلطة بامتياز منذ مجيئها منذ عام 2003. هو فقر مدقع متعدد الأبعاد تم فيها نحر المتقاعد والموظف وعلماء البلد من الوريد إلى الوريد. أهدافها المعلنة هي التقشف والإصلاح والصمود بوجه الأزمة المالية. أما الأهداف المخفية: المزيد من الأذلال والفقر للمواطن، وحماية الطبقة الحاكمة والبقاء على نعيمها.

سأضطر الحديث بالأرقام المزعجة باختصار شديد هذه المرة. فالحكومة تريد تحقيق إيرادات غير نفطية بقيمة 19 تريليون في العام 2021. متوقعة أن تصل الإيرادات النفطية إلى 73 تريليون. وهي يائسة، وليس لديها خيارات أخرى هكذا يقولون. فعدد موظفي الدولة 3.25 مليون، ورواتبهم 41.5 تريليون دينار، رواتب أخرى 6 تريليون، تقاعد20 تريليونا، ضمان اجتماعي 9.6 تريليونات، فوائد قروض الديون 4.6 تريليونات، فوائد القروض الخارجية 6.8 تريليونات. وعجز في الميزانية يبلغ 43 مليار دولار. وحاجة العراق إلى 40 مليار دولار من القروض الخارجية لمواجهة ازمه السيولة لتغطية الرواتب حسب توقعات التقارير الدولية. بالمختصر إن الدولة تغرق في وحل الكوارث المالية وأمطار الأزمات السياسية التي لا تتوقف.

وتحليل الواقع والوقائع لأول وهلة تبدو لصالح الحكومة في خطواتها للإصلاح. فالواقع الاقتصادي والمالي لايسر الصديق والغريب. وماتركوه أجداد السياسة ومافيات الفساد ولصوص المصارف الحزبية للأحفاد خزائن خاوية، واقتصاد يعيش على التنفس الاصطناعي، مع مظالم يندى لها الجبين، وفقر يصل إلى 40%. وليست هناك حياة عراقية طبيعية تسر العدو ولا الصديق. فانهارت الطبقات الاجتماعية لصالح الغني الفاسد. هناك فقير مدمّر، وموظف سلبت حقوقه المالية فأصبح ضمن طبقة الفقراء. فتشكلت خريطة العراق الاجتماعية الجديدة: طبقة فقراء وأخرى طبقة أغنياء. مجتمع طبقي حاد بلا عدالة اجتماعية، وطريق إلى الانهيار!

ولأنني تعلمت من المنهج العلمي، حيادية التفكير.فأنني أجد اليوم صعوبة في اتخاذ القرار بشكل مطلق. فالأرقام أمامنا مرعبة، والدولة غارقة بالديون، والشعب يعيش فقرا لا مثيل له في تاريخ العراق.والازمات المتوالية من كل اتجاه تعصف بالبلد. الدولة تريد الخروج من مأزق الديون المتراكمة، وأسعار النفط المتذبذبة، والخلاص من الفساد المستشري، وفوضى الرواتب والتوظيف الحكومي، ومتطلبات مالية خارج حدود الواقع. وهناك شعب يعيش على قوت يومه بالعمل أو البحث في القمامة، وبطالة مرعبة بين الشباب، وأسعار تتلهب مع الدولار صعودا وهبوطا. وليس أمامهم إلا القهر موتا أو الدخول في سعادة غيبوبة شرب الزحلاوي والمستكي أو هيروين المخدرات الإيرانية أو العيش بغيبيات الطوائف والأديان.

ليست هناك منطقة وسطى بين الجنة والنار. فالحكومة تريد إن تنقذ نفسها من الانهيار الحتمي من خلال ورقتها (البيضاء) وموازنتها التقشفية الضخمة. والشعب يريد عيشا كريما وبسيطا بدون فاقه وأزمات مالية خطيرة. هو يعرف أنه لن يعيش مثل السويدي والدنماركي والنرويجي والهولندي والألماني والنيوزلندي إلا في أحلام اليقظة. ربما اليوم يحلم بحياة المواطن الرواندي والمالاوي والتنزاني وهو أضعف الإيمان مع الأسف!

من المسؤول، الشعب أم الدولة؟ بالمنطق العلمي وليس العاطفي، كلاهما السبب في هذه المحنة الكبيرة، وهذه النتائج المأساوية. فالشعب أنشغل لسنوات بالطائفة أكثر من الوطن: شيعي لو سني، ديني لو مدني كافر. فدخل إلى دهاليز الغيبيات مستضعفا بلا إرادة. وأنشأ رموزا كاذبة بالانتخابات، فأختارها تباهيا، فذبحته بلا رحمة، وسرقت أمواله، وقذفت به على قارعة الطرق يستجدي عطفها بهوان مخجل. ومع ذلك ظل معها سنوات يمتحن عذاباتها. فلم يستفق إلا بعد إن غرق في الفقر والجوع والمرض والحزن، وأخذت من عمره الكثير بلا امل. فأكتشف متأخرا الوطن، وبدأ يصرخ في الشوارع والحارات يستنجد باسم العراق. وها هو اليوم يستذكر مأسيه المتراكمة مع من اختطفوا عراقيتهم الحقيقية وشهامتهم المعروفة. اليوم فقط عرفوا المأساة بعد إن وقع الفأس بالرأس!

أما الحكومة وموازنتها، فهي قصة أخرى، مرتبة حسب الحروف الأبجدية من ناحية منهجها السياسي والاقتصادي. فهي جاءت على أنقاض حكومات لصوصية وطائفية بامتياز. فقد لعبت على حبل الطائفية بتخويف الناس من الآخر. ونفذت مشاريعها السياسية تحت تهديد السلاح والقتل والابتزاز. وسلمت مفاتيح البلد إلى الأجنبي بصنوفه المختلفة. وسلبت خزائن المصارف بطرق مبتكرة. واستحوذت على عقود المشاريع، وهربت أموال الشعب إلى الخارج كهدايا ولائية أو بناء منتجعات وفنادق ومراقص للهوى.
فهل يصلح الكاظمي ما أفسدته الحكومات السابقة؟ جواب يحتاج إلى سؤال جدلي: هل العملية السياسية العراقية التي قام بتصميمها المحتل أنتجت لنا مخرجات سياسية صالحة للعيش المشترك والرفاهية؟

بالمقاربات والمقارنات الموضوعية أقول: لن ينقذ العراق إلا أعادة العملية السياسية من جذورها برؤية مدنيّة متحضرة. وإعادة كتابة الدستور، ورفع الألغام السياسية منه، حيث وضعها المحتل لأهداف يجعل العراق ممزقا يستنفذ موارده البشرية والمادية، وهذا ما يحدث اليوم بالتجارب والبراهين. بالمختصر نحتاج إلى دستور المواطنة والعدالة الاجتماعية. أما الترقيعات الآنية فهي وباء جديد لن يحل الأزمات بل يزيدها أزمات أخرى. فالموازنة الجديدة قد تحل مشكلة دفع الرواتب، لكنها ستأزم صاحب الراتب ماديا ونفسيا، ولن تحل له مشكلة حياته المعيشية الصعبة وتداعياتها. فالراتب سيصبح عديم الفائدة في ظل تغيير صرف العملة، وارتفاع الأسعار، وزيادة الضرائب على الرواتب، ورفع أسعار البنزين والكهرباء والمواد الاستهلاكية الأخرى. هي لعبة حكومية تشبه لعبة الكلمات المتقاطعة أو اللعبة بين القط والفأر. خداع مضلّل مكشوف النوايا والأهداف!

الغريب إن حجم موازنة العراق لعام 2021 أكثر من 150 ترليون دينار عراقي أي أكثر من 100 مليار دولار، وهي ميزانية تصلح لدول مرفهة وليس إلى دولة غارقة بالديون. كأنها تريد معالجة الرفاهية المجتمعية وليس الرفاهية الاقتصادية كما حدث في نيوزيلندا باستخدام إطار معايير المعيشة. هناك تخبط في الميزانية ورؤية عمياء لواقع أسود رغم إن الإصلاح كان تحت مسمى الكتاب الأبيض! فقد تم خفض فاتورة الأجور من 25% في المائة من الناتج المحلي الإجمالي إلى 12 في المائة. وهذا يعني فقرا مضاعفا للفقراء وفحشا للصوص. والحل الأنسب هو تقليل الإنفاق واعتماد صيغ تقشفية في إدارة الموارد المالية، وتحديد الموازنة بحدود معقولة. فليس من المعقول أن تبقى الموازنة أسيرة السلاح وأثمانها الباهظة، وتخصص 2.4 ترليون دينار عراقي للحشد الشعبي وهو جزء من منظومة العسكر كما يقولون، أي بما تزيد حصة 6 وزارات اتحادية مجتمعة. ويتم تخصيص مبالغ كبيرة للوزارات بما يتعلق بخدماتها ونثرياتها وسياراتها.

هناك رأي مالي يرى بأن تخفيض العملة في زمن الركود الاقتصادي قد يضر أكثر مما ينفع. وكان لابد من التدرج في القرارات بشكل منطقي يتوافق مع ظروف المواطن. فقد كانت الموازنة صدمة كبيرة له وللأسواق. وأسست فوضى سياسية واقتصادية ومالية، فأزمت الأوضاع المتأزمة أصلا. كانت هناك حلولا أكثر واقعية تبعد أثر الزلازل المالي عن المواطن وهي: تقدير سعر النفط بشكل صحيح وفق سعر السوق العالمية، إيجاد مصادر دخل بديلة كالمنافذ الحدودية والجمركة، تفعيل الجبابة والضرائب والاستقطاع المباشر من مزاد العملة، وتخفيض ميزانية التسلح، استثمار القطاعات غير النفطية كالسياحة الدينية، وإصدار الحساب الختامي للدولة كل نهاية عام.

قرأت تقريرا دوليا خطيرا يؤكد بأن رواتب المسؤولين الكبار يستنفذ ميزانية الدولة 15 في المائة من رواتب الدولة. أي يمكن أن تدخل الخزينة العراقية 500 مليار عراقي إذا ما تم تخفيض كبار المسؤولين من مدير عام إلى الأعلى بنسبة 50 %. وهذا القرار يحتاج إلى قرار مجلس الوزراء فقط وليس إلى قانون.والفساد الأكبر، كما يشير التقرير الدولي، يتجسد بقوة في مزادات بيع الدولار ومافيا المصارف والأحزاب وأساليب الخداع والتمويه والضغط لمصالحها وأجنداتها السياسية والاقتصاية.لكن الأغرب أن تدخل تراخيص شركات الهاتف الجوال على الخط لسحب الدولار وتهريبه للخارج كغسيل أموال تحت بند الاستيراد مع إنها لا يوجد لديها ارصده معلومة المكان. ويمكن للحكومة أن تضمن لها 400 مليار شهريا كعوائد إذا ما استقطعت 10 في المائة كأمانات من المزادات. كذلك يمكن أن تحصل على 8 تريليون سنويا من أسعار النفط الخام المباع لشركات التصفية والتوزيع إذا ما تم بيعه بسعر البورصات وليس بالسعر الرمزي. وبالحسابات البسيطة يمكن أن تدخل الخزينة 700 مليار شهريا.

كل هذه الإجراءات البسيطة لو اتخذت فأنها لا تمس المواطن. فما السر أن تتجه الحكومة لذبح المواطن في كل ازمه اقتصادية، وتجعل منه (حايط انصيص)؟ فلا ينجو راتب المتقاعد والموظف في كل مرة من هذه المذبحة المالية. ولاتنجو مخصصات علماء الجامعات وصنّاع الأجيال هي الأخرى. السر هو إن الحكومة (حايط انصيص) أمام الأحزاب الدينية لأن وجودها ومصالحها مرتبطة بها. كلاهما يدور في فلك الآخر ينجذبان لكوكب مريخ السلطة والمال. إلا المواطن فأنه يدور في فلك كوكب الظلم والفقر، ويَسْبَحُ في فضاء الله.