اعرف مقدما إن زراعة الشعر في الرأس، اهم من زراعة المعرفة في العقل. واعرف إنني أحفر في أكبر بحر في العالم. فالرجال يعيشون هوس زراعة الشعر الأشقر المحقون بإبر البلازما، والمرأة مشغولة بعمل انتفاخ الشفايف أو تفقيع العيون أو تضخيم الخدود بالفيلر والبوتوكس لإثارة الرجال، والنتيجة أننا نعيش في مزارع البط، حيث الشفاه المتورمة، وفي بلدان أسيوية لا تفرق بين (ساكاي) و(سايكو)، وعندنا بين (ملحة) و(جميلة). ونحمد الله إن نسائنا أصبحن من فصيلة واحدة من الجمال، فلاعائق أمام العريس للاختيار. والقول المأثور مناسب هنا: صورة الوجوه تساوي ألف كلمة.
يبدوا أن هناك شللا حقيقيا في عقولنا، وان هناك لعبة في مهب الريح، وبصيرة لا تستطيع الخوارزمية التقاطها تمامًا. إنه أكثر من مجرد استيعاب الحقائق حول المستويات السطحية للموضوعات. إنه فهم أهمية الأشياء ومعناها، والقوى العاملة في الداخل، وتحت، وفيما بين. لأنه يمكن أن تؤدي تنمية المعرفة إلى التنافر المعرفي، وهي نظرية قام بها فيستنجر تتضمن وجود اثنين من المعتقدات المتضاربة، واختيار التخلص من المعتقد الذي لا يتناسب مع مُثُلنا. أنه "إحساس الجاهل" بعدم قدرته على الانتباه إلى كل شيء. لذلك نحن ننتبه فقط إلى الأشياء التي تهمنا، وبالتالي نتجاهل كل شيء آخر.
رباط الكلام بالعقل، أن زراعة المعرفة في عقولنا، ستنهي الجهل بالمعتقدات والخرافات التقليدية، والأفعال المسطحة بالممارسات الجاهلة. فالمعرفة قوة وتنميتها في عقولنا امر ضروري للوعي بالحياة، وتحسين ظروفنا. فمعرفة مستقر الوعي يقودنا حتما لمعرفة ماهي المعرفة، وماهو الوعي؟، خاصة وأننا نعيش مع مترادفات معرفية كثيرة، وعناوين لن تنتهي إلا بموتنا، عناوين كثيرة كالدماغ، الذاكرة، العواطف، الوعي، الجينوم البشري، الذكاء الاصطناعي، علم الوراثة الدماغي، أصل الحياة، الطب النانوئي، تطور الدماغ، خريطة التشابكات العصبية، الشيفرة الوراثية، سلة مهملات الحمض النووي. فنحن العرب نعيش في ثورة المعرفة كما يبدو على إننا مجرد روبوت مع الأسف!
ومن أجل جعل المعلومات والخبرات التي لديك على مدار أيامك تصبح ذات مغزى وجزء من البصيرة، عليك أن تكون لديك عادة التفكير. فالقيام بذلك بسيط مثل تنمية عقلية تقبل جميع أنواع البيانات الخارجية، وكذلك الانخراط في أنشطة وضع المفاهيم والتجريب عندما تواجه أجزاء جديدة من المعلومات. لذلك عليك أن تخصص وقتًا لزراعتها. الطريقة للقيام بذلك هي من خلال الممارسة المنتظمة للتفكير. حيث يُوفر هذا المخزون الجمعي من الخبرات القدرة على ابتكار المزيد من الحلول الناجعة والمتنوعة لمواجهة التحديات التي تفرضها الحياة.
لم تكن أدمغتنا الكبيرة، أو ذكاؤنا الوقاد، أو لغتنا الثرية هي ما منحنا الثقافة، وإنما ثقافتنا هي ما منحنا هذه العقول وهذا الذكاء وهذه اللغة. بالنسبة لنا كانت الثقافة هي الموجِّه الأساس للعملية التطورية.ولعل أهم السبل للتمكين المعرفي ما سمي بـ «زراعة المعرفة». وهو يعني إن المشاركة هي أعلى مرتبة من مراتب المعرفة، لجعلها تنمو على نحو مستدام، وذي فائدة طويلة الأمد.وقد برز المفهوم لأول مرة عام 1997على يد الكاتب(سكايرمي) من خلال تركيزه على الدور القيادي للمؤسسات في إنشاء ورعاية المعرفة بشكل يساهم في عملية الإبداع والابتكار.
القاعدة الذهبية، أن المعرفة تمنح الأنسان شيئًا للتفكير فيه، لكن قراءة الأدبيات البحثية من العلوم المعرفية تُظهر أن المعرفة تفعل أكثر بكثير من مجرد مساعدة الأنسان على صقل مهاراته في التفكير، إنها في الواقع تجعل التعلم أسهل. فالمعرفة ليست تراكمية فحسب، بل تنمو باطراد. أولئك الذين لديهم قاعدة غنية من المعرفة الواقعية يجدون أنه من الأسهل معرفة المزيد. كلما عرفت أكثر، كلما كان من الأسهل عليك تعلم أشياء جديدة. إن تعلم أشياء جديدة هو في الواقع عملية سلسة، بالإضافة إلى ذلك، تعزز المعرفة الواقعية العمليات المعرفية مثل حل المشكلات والتفكير المنطقي. كلما كانت قاعدة المعرفة أكثر ثراءً، تعمل هذه العمليات المعرفية بشكل أكثر سلاسة وفعالية. لذلك، كلما زاد تراكم المعرفة لدى الأنسان، أصبح أكثر ذكاءً.
ببساطة نحن مخلوقات اجتماعية بطبيعتها، وتفاعلاتنا مع الآخرين تشكل وجودنا وهويتنا. نحن نمتص بيئتنا ونعالجها ونختار الأفكار التي نريد الاحتفاظ بها أو رفضها. هناك الكثير من المعلومات المتاحة لنا لاستيعاب كل شيء نواجهه، لذلك يجب علينا تحديد المعلومات التي نريد الانتباه إليها. أي عملية اختيار المعرفة لإضافتها إلى خزين العقل وتنشيطه، بشرط تصفية المصادر التي تنمي معرفتنا منها. إن مستقبل الإبداع والابتكار يتم عبر زراعة المعرفة في العقل. فعن طريق تنمية واستثمار المعرفة يكون النشاط الأساسي اللازم للابتكار، الذي يتم عبر التفاعل في العقل البشري بين المعرفة السابقة والجديدة المتحصل عليها بالمشاركة والتمكين.
بالمقابل، هناك اليوم ثورة تقنية هائلة، لا تحتاج منا (زراعة المعرفة)، إنما زراعة ادواة وشرائح تقنية في العقل تحتوي جميع المعارف. وحسب نيغروبونتي -مؤلف كتاب التكنولوجيا الرقمية -سيكون من الممكن أيضاً، التواصل مع الدماغ من الداخل، ليس فقط من خلال الغرسات، بل من خلال مجرى الدم، لإيصال المعلومات إلى الخلايا العصبية. وسيكون (البت) في الحاسوب حمضاً نووياً، يمكننا من خلاله توليد الكلمات والصور الفوتوغرافية والصور المتحركة والنماذج ثلاثية الأبعاد، وتشغيلها، وبالتالي إعادة بناء المعلومات ومعالجتها، ونقلها وتلقيها، وفي نهاية المطاف فهمها، وهي مرتبطة بمفهوم الذكاء الاصطناعي.
هناك أحدث صيحة علمية، تتمثل في عمليات لزراعة الذاكرة. شريحة بالمخ تمحو الذكريات السيئة. و(ميموري كارد) يمكن الإنسان من استدعاء المعلومات في ثواني على طريقة "جوجل". وقد تحسن الذاكرة بنسبة 30%. كل هذه ليست مجرد تخيلات، ولكنها أصبحت واقعاً ملموسا، وقد ونجحت التجارب على الحيوانات، ولا زالت في طور التطبيق على البشر. وسيكون هذا مفيدا للذي يعانون من فقدان الذاكرة على المدى الطويل واستعادة ذاكرته، مثل المرضى الذين يعيشون مع مرض الزهايمر أو السكتة الدماغية. بل الأخطر أن يزرع في هذا الجهاز ذكريات وهمية لم تحدث من قبل!
كشف خبير آخر في مجال الذكاء الصناعي إن زراعة عقل صناعي يمكن أن يحل محل التعليم، ويلغي الحاجة إلى المدارس، ويزيد من مستوى الذكاء ويجعله "خارقا" ومتفوقا. حيث يعمل على "تثوير" الذكاء الصناعي للتعليم الشخصي الخاص، وقد تنهي فكرة أو مفهوم المدرسة كما نعرفها كليا، وتنهي فكرة الحفظ والتلقين، حيث يتم تعليم الحقائق وتكرارها ثم نسيانها.
وخلال العامين الماضيين، طرحت أفكارا جهنمية ترى أن «حوسبة الدماغ» هي أفضل وسيلة لاستمرار سيطرتنا على «الذكاء الاصطناعي» من خلال «الرقاقات الدماغية الحاسوبية»، تسمح لعقل الإنسان بالتخاطب مباشرة وبدقة عالية مع أجهزة الكمبيوتر؛ من خلال تحويل اللغة العصبية إلى لغة رقمية ثنائية تفهمها الحواسيب تكون قادرة على التعامل مع عشرات الملايين من الخلايا. كما تطور شركة «انتل» الأمريكية رقاقة عصبية تحاكي الكيفية ذاتها التي يعمل بها الدماغ البشري معتمدة على التعلم الذاتي القائم على التغذية الاسترجاعية من البيئة، فهي تتعلم من تلقاء نفسها مستندة إلى البيانات، وتصبح أكثر ذكاء مع مرور الوقت تدريجياً، ولا تحتاج إلى البرمجة التقليدية ما يعد فجر عصر جديد من التعلم الآلي يتسم بذكاء بصري حاسوبي شبه بشري أكثر سرعة وأقل استهلاكاً للطاقة.
هناك مشروع الحاسوب العملاق مقابل الدماغ البشري، حيث ستصل سبعة آلاف شريحة دماغية إلى حوالي 2 بيتابايت من البيانات، وهناك حوالي 86 مليار خلية عصبية في الدماغ، كل خلية عصبية بها حوالي 10000 اتصال، وهناك تقريبًا العدد نفسه من الخلايا الدبقية، وهي مهمة أيضًا في الدماغ. وهناك باحثون آخرون يبحثون في المشروع من زاوية أخرى. إنهم يبنون أجهزة كمبيوتر "تنسخ" بنية الدماغ البشري.
أمام كل ما يجري في عالمنا نقول بصدق: قادم الأيام حبلى بالمفاجآت بين تقلبات البشر وجنونهم، وثورات العلم التسونامية في زراعة الرقاقة الإلكترونية بالعقول! وربما يأتي يوما نترحم فيه على أيام الشفاه الأفريقية، والشعر المجعد الأسود العربي، وبطولات عنترة العبسي، فيما لو نجانا الله وأياكم من الرقاقة العصبية في عقولنا التي ستمحو ذاكرتنا القديمة إلى الأبد!