الصورة التي يبحث عنها كل مخرج تلفزيوني في الواقع أو في الخيال، حسب خبير الدراما جون يورك "هي دائمًا تلك الصورة المقربة لوجه الإنسان وهو يختبر التغيير". وهذا هو بالتحديد ما التقطه واستظهره كولن تيغ مخرج مسلسل (رشاش). حيث استهل المسلسل بلقطات مقربة لوجه رشاش (يعقوب الفرحان) وهو يراود نفسه بالإفصاح عن نسيجه الجواني الفاسد، ورغبته الصريحة في التعبير الفاضح عن دراما تدمير الذات. وهذه -بتصوري- هي الجملة الافتتاحية المفتاحية للنص الذي كتبه توني جوردن وأعدته سهى الخليفة دراميًا.

القصص الجاذبة هي التي تجعل من التغيير في قدر الشخصية ركيزتها الأساسية. أو كما سماها أرسطو (البيربتايا) Peripeteia أي لحظة الانعطاف المباغتة باعتبارها ركنًا من أركان الدراما. إذ ينبثق السؤال الدرامي بمجرد أن تقع العدسة على رشاش. حيث نتساءل: من هو هذا الشخص الذي يتصرف بتعالٍ واضح؟ ولماذا يتصرف بهذا الشكل الاستفزازي؟ وعليه، يحاول المسلسل تقديم إجابات تصب كلها في مضمون الشخصية. أي قراءة وعرض ذهنية رشاش من منطلق تأويلي استنطاقي لجوانية الشخصية.

مسلسل (رشاش) ليس مسلسل حدث بقدر ما هو دراما شخصية. (شخصية معيبة) بالمعنى الفني. فهو يتأسس من الوجهة الحدثية ضمن ما يعرف بــ(الواقعية الساذجة). حيث الوضوح الواقعي، وانكشاف الخط البياني لحركة الشخصيات في الزمان والمكان، بمعزل عن التعقيدات والغموض وحيل الحبكات، إلى جانب خطابية الحوارات ولغتها الأفقية المباشرة، حتى النهاية التراجيدية لرشاش كبطل معتل معلومة مسبقًا. فالأحداث الدرامية السطحية للقصة، المحتشدة بالمطاردات والسلب والعنف ليست هي المغزى الدرامي، بل ما نتابعه ونتفاعل معه من خلال شخصية (رشاش) ورفاقه الذين يشكلون نُسخًا عنفية جامحة، ممتثلة له ومتشبهة بشخصيته. مهل وسلطان وعمر وقحص ومصلح. وهذا هو ما يفسر عنفوانية حضورهم ومرونتهم الجسدية اللافتة، المعززة بأداءات (دوبليرات) المجازفة، مقارنة بالأداء الروبوتي البارد لرجال الأمن.

وانطلاقًا من تلك الدراية يقدم المسلسل شخصية معيبة، عصابية، مفتقرة للحس الأخلاقي، مزدحمة بالقلق والعنف والأنانية والإحساس بالتفوق والاعتداد بالنفس. وعلى هذا الأساس ينبني اعجابنا وانجذابنا لشخصية البطل المختل، وكل حركة متهورة يرتكبها ترفع منسوب ارتباطنا العاطفي به وتتبع مصيره. وهذه هي طبيعة الشخصية المتحركة، المتغيرة، اللاامتثالية، لأنها تغذي فينا كمشاهدين حس التحدي لمفاعيل السلطة. وهو أمر يبدو على درجة من الوضوح في وعي (رشاش) الشاخص لتخليد اسمه كعصياني سواء من خلال منطوقه حين يقول (أحب أبويه بس اني أعيش عيشته، خبل أنا، والله لأخلي كل الناس تذكر اسمي وبس، لو أتحالف مع ابليس). أو من خلال وجهة نظر الآخرين فيه، كقول ضابط الحرس (رشاش يكره كل أشكال السلطة).

هنا تكمن البراعة، أي في تحويل الاختلال إلى شخصية مكسوة باللحم مشحونة بالأحاسيس. تتحرك في فضاء النص بعد استلالها من الواقع. أو بمعنى أدبي فني تعليبها في (بينصية) تعتمد الاكتفاء باشتقاق (ثيمة) شخصية (رشاش) من الواقع ودفعها مرة أخرى في فضاء النص/المسلسل كشخصية ناطقة ومستنطقة في الآن نفسه، بالقدر الذي تبدو فيه محمولة على الخيال وإعادة التركيب في قالب درامي. حيث جرت عمليات بنيوية عميقة لتحويل شخصية قناص برتبة عريف في الحرس الوطني ذي هوية ومزاج صحراوي إلى بطل مسلسل أكشن بمواصفات هوليوودية. بمعنى أن المسلسل لم يكن معنيًا بتجسيد وثيقة تاريخية ذات أبعاد واقعية، بقدر ما انشغل بتقديم ما يُصطلح عليه بالدراما السطحية، حيث ينبني الصرح الدرامي على الإثارة والتشويق، بمعزل عن منطقية الوقائع واعتباراتها الموضوعية.

كل ذلك استوجب العودة بالشخصية إلى تفسير أصل الشر المحض الذي تختزنه هذه الشخصية ويشكل دافعها، وذلك لتفسير سر تحول (رشاش) من شخصية رجل أمن منذور للحفاظ على حياة الناس إلى شخصية عصيانية مهجوسة بتدمير نفسها والآخرين. حيث يتأمله ضابط الحرس من بعيد بعد نقله إلى معسكر الإسكان عقابًا له إثر ضربه لضابط وهو يتمتم باستهجان لشخصيته العدوانية "واضح عليه شوفة النفس، يمشي كانه الميدان لابوه".

وبمقتضى تلك المقدمات يمكن القول أن السؤال الدرامي الذي سيطر على شخصية (رشاش) هو الخلود. وهو بمثابة الدافع للعدوانية التي يبديها. الخلود بمعنى الإمعان في ارتكاب الشرور. إذ لا يكف عن ترديد حلمه الذي يستعيده بصوت أمه حول نجم يلمع بميلاد أي شخصية فاعلة. ففي حديثه مع قحص (ابراهيم الحجاج) عندما سأله " وانت يا رشاش وش تبي توصل له؟" فأجابه "الخلود". وبعد أن يخبره بأن كل ذلك العنف الذي يرتكبه ليس من أجل المال ولا لشيء، إنما من أجل تخليد اسمه كشخصية متحدية للسلطة "أنا بسوي لي صيت، أبي اسمي يلمع حتى لو بالشر". حيث يُبدي أعلى درجات الاعتداد بالنفس والإحساس الصريح بخلوده عندما خاطبه النقيب نايف في السجن "حياتك خلاص انتهت". ليرد عليه "تحسب اني انتهيت يا عسكري. الحين بدت قصتي. لو تحطوني وراء الف قيد. تحسب إني بموت لو قصيتوني، والله ان تذكروني كل أبوكم، والله لتتحلمون فيني". وهو يصرخ بإباء المنهزم المنكسر "أنا رشاش، أنا رشاش، أنا رشاش". وهنا تتجسد ملامح شخصيته المعيبة، حيث يكون سؤالها الدرامي المحوري حول تخليد الذات بالشر المحض هو دليلها على صحة نظرتها للعالم. في الوقت الذي يكون التشويق المؤسس على الإثارة هو سر قوتها ونموها دراميًا.

ومن ذات المنطلق وظف المؤلف عنصر اللعب على المكانة كما تقتضيه الدراما، خصوصًا في المواجهة التي أشعلها ما بين رشاش والنقيب فهد (نايف الظفيري). حيث تعمد كل طرف إذلال الطرف الآخر وتضئيله، على اعتبار كونهما طرفي معادلة الخير والشر، كما تبدى ذلك في أول حوار بينهما عندما سخر رشاش من فهد وذكره بمصير زميله غالب "ترى هذي النظرة اللي في عيونك أعرفها زين. وين شفتها شسمه شسمه شسمه. آه غالب". فيرد عليه فهد "غالب كان أرجل منك". ويضيف ليمعن في إهانته "تدري ان أمك متفشلة منك. قعدت آخذ بخاطر ذا المسكينة. جاك العلم، الظاهر انها ما تبي هدايا من قاطع طريق". وكذلك عندما فشل النقيب فهد مرة أخرى في القبض على رشاش في عملية البنك. وبمنتهى السخرية توجه إليه بالكلام لإغاظته "رقوك على حسي. خلوك نقيب. صامل يا فهد. إلا تبي تصير بطل. وش فيها لو انقال عنك ارخمة. هذي ثاني مرة ما تقدر تجيب راس رشاش يا ارخمة" وصولًا إلى المواجهة المفتعلة في المطعم ثم العراك الجسدي العنيف في اليمن.

أما الفضاء الذي يتحرك فيه (رشاش) فهو بسيط لدرجة الفقر، إلا أنه يتوهمه مصدر إلهامه وأمانه وميدان حركته. إذ لم يتعرف من الوجهة الثقافية إلا على (البر). باعتباره الفضاء الذي سيحميه ويمكنه من تضليل سلطات الأمن إلى الأبد، مقارنة بالمدن التي لا ينسجم معها ويعتبرها مجرد فضاءات للإغارة والنهب. ولذلك قال لعُمر (فايز بن جريس) ليسترضيه ويخفف من روعه "البر أنا أعرفه وبيحميني، وأنا بحميك". كما كان يردد لرفاقه عبارات طمأنة مثل "قلت لكم البر بيعطينا كل شيء". وهكذا كان (البر) جزءًا من عصابيته ومن نظامه الثقافي، فهو لا يعلم أي شيء عن العالم سوى ذلك الخلاء الفسيح الذي يظنه متاهة هو أعرف بأسرارها وخيراتها. ولذلك وضع كل رهاناته على تلك الفسحة المحرمة على من لا يعرف ألغازها. وهذا هو ما أوصى به رفاقه لحظة الافتراق "البر تدلونه أكبر من أكبر شنب فيهم".

حتى الحبكة انبنت تمفصلاتها الدرامية المعروفة على مآلات شخصية رشاش صعودًا وانكسارًا. بدءًا من لحظة إعلان نفسه بطلًا ملهمًا وقائدًا. ثم مرحلة الحلم، حيث الإحساس بالقوة والتفوق والقدرة على انجاز أي مهمة سطو أو سلب بنجاح بصحبة الفريق الإجرامي الذي أنشأه. لتأتي مرحلة الإحباط إثر فشل عملية البنك واضطرارهم للتفرق في الصحراء خوفًا من رجال الأمن، أو بمعنى أدق عندما تركهم رشاش ليواجهوا مصيرهم المحتوم فرادى، حيث أعطى كل واحد من رفاقه رصاصة انتحاره الأخيرة وهو يملي عليهم نهاياتهم المأساوية "ترى بيقصونا" فيما يبدو إحساسًا ضمنيًا بانسداد أفق النجاة. وصولًا إلى الحالة الكابوسية المتأتية من الحصار المفروض عليهم والمطاردات التي انتهت بتصفية مصلح (أيمن المطهر) وانتحار قحص، ثم الإجهاز على الأخوين مهل (عبدالله البراق) وسلطان (حكيم جمعة) وموت عمر بعد أن تخلى عنه وهو جريح لينجو بنفسه في لقطة صادمة دراميًا تنم عن أنانيته وقسوته، مكتفيًا بعبارة خالية من أي رصيد بطولي أو أخلاقي "سامحني يا عمر". وانتهاءً بفراره إلى اليمن ثم غدر علي (عزيز الغرباوي) به وتسليمه للنقيب نايف ليُقتص منه بالسيف. وهكذا أكد المسلسل على فكرة تحويل الاختلالات إلى شخصية درامية جاذبة محمولة على التشويق، كما أكدت النهاية على المفهوم الأرسطي القائل بأن الخطيئة مقدمة للكارثة.